جموح الذكاء الاصطناعي.. والإنسان البديل!!

الاثنين 19 ديسمبر, 2022

مابين الصراع مع المستجدات والأزمات والضغوط وشطحات السياسة بتقلباتها  وأمواج التغيرات المناخية الاصطناعية الهادرة يعيش إنسان العصر في حيرة وقلق وتوجس في رحلة البحث عن الهدف والاستقرار والأمان وشيء من السعاده وتحقيق الذات والتحصن من الصدمات المتسارعة،والتي لازمها تراجع قيمي وأخلاقي غير مسبوق !.

وفي العصر التكنولوجي المتسارع بدأ إنسان يتوجس من هوس إنتاج العقول الصناعية و"الروبوتات " المتطورة ،وظهرت خلال السنوات الأخيرة ظهرت فوبيا الذكاء الاصطناعي التي تثير عشرات علامات الاستفهام نحو المستقبل، وعن علاقة الآنسان بالآلة ،والذي فاق كل التوقعات وحدود الاستشراف!. فهل هي علاقة صدام أم تكامل، جموح ومنافسة بلا أية ضوابط أم "أنسنة"وفقا للقيم والمبادئ الأخلاقية والأعراف والفطرة الإنسانية،وخاصة بعد  ظهور اتجاهات داعمة لتقنيات متطورة تعتمد علي زرع شرائح في المخ، حيث أسس الملياردير إيلون موسك شركة "Neuralink Brain chip" عام 2017، بهدف ربط الدماغ البشري بالأجهزة الرقمية لتعزيز وتطوير قدرات كل من البشر وأجهزة الكمبيوتر ،أو علاج بعض الأمراض.
 هذا علاوة ظهور اتجاهات لغرس شرائح تتضمن شفرات ذكية خاصة للهوية والتاريخ المرضي في بعض أنظمة التأمين الصحي بالولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب !.

وتتزايد المخاوف مجددا من جموح العلوم والتكنولوجيا التطبيقية لانتاج عقول صناعية، ربما تتحكم في قدرة الإنسان علي التفكير واتخاذ قرارات ما من خلال شرائح إلكترونية بالغة الدقة والتعقيد!.

 الذكاء الاصطناعي في أبسط معانيه مجموعة من المساعي النظرية والتقنية التي تجتهد في تطوير البرامج المعلوماتية المعقدة القادرة على محاكاة الذكاء البشري، لا سيما في أبرز سماته الإدراكية، كالتعقل والاستدلال والبرهنة والتعلم والتدرب. 
ويتجسد في منظومات معلوماتية تقنية تتقلد الذكاء البشري، وتستخرج منه منطق آلياته وعملياته ومساراته التطبيقية، حتى تستطيع أن تنجز المهام الموكلة إليها، وتحسن من أدائها، مستنداً إلى منطق التكرار التطويري.

 وتتنوع حقول تطبيق الذكاء الاصطناعي بحيث يعثر عليه المرء في أجهزة الدفع آلي ذاتي، وفي أجهزة التعلم الذاتي، وفي الروبوتات المميكنة، وفي الكمبيوترات المتبصرة في مساراتها التدقيقية، وفي السيارات والمركبات والناقلات المستقلة الحركة، وفي الأنظمة اللغوية الرقمية المجردة.

وبقراءة المشهد المعاصر نجد أن البشرية تتطلع إلى روبوتات الذكاء الاصطناعي خصوصاً، بعين التفاؤل والأمل والريبة والتوجس في آن معاً، فهي من جهة، تقدم لنا كفاءة وإنتاجية أعلى، ما يسهل لنا الحصول على ما نريد من خدمات بسرعة ودقة أكبر، ومن جهة أخرى هناك مخاوف من أن تصبح بديلاً عن البشر في سوق العمل نتيجة التطور السريع الذي نشهده اليوم، فقد أصبح الروبوت يعمل جنباً إلى جنب مع الإنسان في كثير من المجالات، ما يعني أننا مع كل تقدم تكنولوجي في مجال ما، نجد أنفسنا أمام فقدان شريحة من الوظائف التي يخسرها عمال من لحم ودم لمصلحة العمال الافتراضيين الجدد.

كل المؤشرات تؤكد أن العقول الصناعية قادمة بقوة في زمن التقنيات المتسارعة،وأصبحت تزاحم العقول البشرية ،وتنتقل تدريجيا من مرحلة المساعدة إلي مرتبة الصدارة.
وتجاوز التفوق حدود العلوم الطبية والتجريبية إلي مختلف المجالات الاجتماعية والإعلامية ،في التخطيط و التحليل والتركيب والتوقع بل الابداع أيضا!.

وفى سبتمبر الماضى، ظهر عنوان مذهل على موقع الجارديان: "كتب روبوت هذا المقال، هل أنت خائف أيها الإنسان؟" وأوضح المؤلف الآلى للقراء أن "مهمة هذا المقال واضحة تماما" قائلا "أنا أقنع أكبر عدد ممكن من البشر ألا يخافوا منى، ورغم تحذيرات ستيفن هوكينج من أن الذكاء الاصطناعى يمكن أن "يعنى نهاية الجنس البشرى" يقول أنا هنا لأقنعك ألا تقلق، الذكاء الاصطناعى لن يدمر البشر، صدقنى، لقد "علمت نفسى كل شيء أعرفه فقط من خلال قراءة الإنترنت، والآن يمكننى كتابة هذا العمود"، وتابع الكاتب الروبوت، "عقلى يفيض بالأفكار!.." !.

ووفقا لما رصدته د.أماني ألبرت أستاذ الإعلام والعلاقات العامة بكلية الإعلام جامعة بني سويف، فقد تضاعف
 استخدم توظيف الذكاء الاصطناعى فى مجالات الإعلام المتعددة، ففى نطاق الصحافة جرى استخدام برامج وخوارزميات لإنشاء قصص إخبارية تلقائيا من دون تدخل بشرى، وظهرت الأخبار الآلية منذ نحو نصف قرن خاصة فى مجال التنبؤ بالطقس (سرعة الرياح وهطول الأمطار ودرجة الحرارة) لكتابة تقرير متكامل، كما استخدمت المؤسسات "الأتمتة" فى كتابة الأخبار المالية، وإدراجها فى قوالب مكتوبة مسبقا لإنشاء تنبيهات إخبارية لعملائها تلقائيا.
وعلى نطاق السينما ظهر الذكاء الاصطناعى لأول مرة فى السينما منذ ما يقرب من 100 عام ،فقد ظل البشر يحلمون بإمكانيات الذكاء الاصطناعى لفترة طويلة ورسموا أحلامهم عبر الشاشة الكبيرة ،وبمرور الوقت تحولت هذه الأحلام لواقع حقيقى، وظهرت أفلام مميزة مثل ماتريكس (2003)، عين النسر (2008)، الرجل الحديدى (2008)، والقمر (2009) وأخيرا فيلم أفتار بجزئين، وفيها جرى دمج الذكاء الاصطناعى فى العالم المادى لتقدم شخصيات بطريقة أكثر اتساقا مع الطريقة الحديثة وظهر بقوة دور المساعين الرقميين فى مراقبة حياتنا!.
كما جرت الاستعانة به فى صناعة الأفلام وخاصة للمساعدة فى كتابة النصوص والتنبؤ بالإيرادات التى من المحتمل أن يحققها الفيلم، وتسريع عملية اختيار الممثلين عن طريق إجراء الاختبارات تلقائيا.

كما ظهرت تقنية التزييف العميق deepfake كمزيج من تقنيات الذكاء الاصطناعى للتعلم العميق أو التعلم الاستنتاجى مع التزييف بحيث يجرى إدخال فيديو لشخص يتحدث، وواضح فيه الصوت وحركة الشفاه وتعبيرات الوجه والوقفات، ثم يستبدل وجه الشخص بوجه الشخص المقصود، وبتقنيات حسابية يقوم الذكاء الاصطناعى بدمج وجه الشخص المقصود مع الفيديو ومحاكاة الكلام الذى يقال بتعبيرات الوجه ومطابقة تبديل الوجوه بالبيكسل !.

وفى قفزة مذهلة استخدمت وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" "أڤاتار" مبرمج بالذكاء الاصطناعى، عبارة عن قارئ أخبار لنقل الأخبار باللغتين الصينية والإنجليزية، صوت ومظهر المذيع الرقمى يشبه قارئ الأخبار الصينى Zhang Zhao ويتمتع صوته بالجودة الاصطناعية لتحويل النص إلى كلام بالإضافة لمهارة تعابير الوجه وحركات الشفاه.

ويمكن للذكاء الاصطناعى تحسين جهود العلاقات العامة للمؤسسة من خلال توفير الأدوات التى تستفيد من قلوب وعقول الجمهور المستهدف، كما أن لديه القدرة على تحسين جهود تسويق المحتوى من خلال تحسين محركات البحث وتحسين تخصيص الجمهور وحساب استجابة الجمهور.
 
 وما تزال الأبحاث الاستكشافية مستمرة من خلال علماء الأعصاب لفهم كيفية عمل الدماغ البشري، بما يعرف بالعلوم العصبية.

ويري بعض الخبراء أن  تجربة التفكير في فلسفة الذكاء الاصطناعي تبرهن على أنه من الممكن من الناحية النظرية إنشاء آلة تمتلك جميع قدرات الإنسان ،وهو مشروع مهم طويل الأمد لإنشاء آلات قادرة على القيام بأعمال ذكاء عامة أو الذكاء الصناعي العام. وقد تم تعميم هذه الفكرة من قبل ريموند كرزويل (Ray Kurzweil) بما يعرف باسم strong AI "وهو ما يعني آلة ذكية مثل الإنسان!.

وقد انشغل العديد من المفكرين والنقاد والفلاسفة المعاصرين بهذه القضية من بينهم روجر بنروز (Roger Penrose) في كتابه إمبراطورية العقل الجديد (The Emperor's New Mind).
 ويرى بعص النقاد أن هناك جوانب للمعرفة أو الإدراك البشري لا يمكن محاكاته من خلال الآلات ،بينما يري فريق آخر أن العملية البيولوجية داخل الدماغ من الممكن محاكاتها بأي درجة من الدقة،ومنهم    كورزويل الذي  يُفضل المصطلح الواضح (Strong AI)، أو الذكاء الاصطناعي القوي.
 وقد ركز في كتابه التفرد قريب (The Singularity is Near) على محاكاة العقل بالكامل باستخدام أجهزة الحوسبة التقليدية كمنهج لتطبيق العقول الصناعية ويزعم أنه على خلفية قدرة الحاسوب على الحساب باتجاه النمو الأسي، أن ذلك من الممكن أن يحدث بحلول 2025.  

وقد أصدرت جامعة كندية في عام 2018 وثيقة توجيهية بعنوان "وثيقة مونريال من أجل تطوير الذكاء الاصطناعي تطويراً مسؤولاً" تضمنت الموضوعات الأساسية التي يجدر التفكير فيها من أجل تدبر قضية الذكاء الاصطناعي الذي غدا يجتاح كل مرافق الحياة الإنسانية وقد جاءت في سياق التفكير الأكاديمي العالمي الذي يتطلع لاستجلاء الإشكاليات والرهانات والتحديات التي يستثيرها الذكاء الاصطناعي في وعي الإنسان المعاصر وفي واقع الحياة البشرية الراهنة.
 أما الضجيج الإعلامي الذي استثاره الروبوت لامبدا (Lambda) الفائق الذكاء، فيبين أن العلماء باتوا يخشون تجاوز الحد الفاصل بين الذكاء الاصطناعي الخاضع المضبوط، والذكاء الاصطناعي المستقل المتفلت من كل سيطرة إنسانية أخلاقية!.

وما بين تطلعات الأمس واليوم والغد في المستقبل المنظور مسافات ، سيظل
الذكاء الاصطناعي هو ثروة عصرنا الحاضر العلمية والتقنية في خدمة البشرية ورفع قدرات وجدارات  الموارد البشرية ،وأهم وسائل تنمية الاقتصادات الوطنية الناشئة.
وقد فاقت الأهمية التطبيقية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كل التوقعات ،وما تزال تطمح لفكرة الإنسان البديل أو مرحلة ما بعد الإنسان !.

ومابين التكييف الديني والعقيدي والبحث عن إنسان بديل يتسم بالوعي وإمكانية الإدراك والتصرف في المواقف المختلفة ظهرت عدة دراسات وأبحاث لعرض تصورات علماء الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسان الآلي البديل ،من بينها دراسة حديثة حول تكنولوجيا الإنسان البديل "السايبورج" وإمكانية الوعي للدكتور عادل عوض أستاذ المنطق ومناهج البحث بكلية الآداب جامعة المنصورة.
 وهي دراسة مهمة وشائكة،ومن أهم أبحاث الاتجاهات الحديثة في مجال دراسات الذكاء الاصطناعي ، التي تفتقر إليها المكتبة العربية. 
 وتطرقت الدراسة إلي مرحلة ما بعد الإنسان أو الإنسان البديل "السايبورج"وهو كائن هجين من الإنسان والروبوت ،كائن نصفه إنسان ونصفه روبوت،كائن مزيج من مكونات عضوية وبيو ميكاترونية.
وقد حاول د.عوض عرض تكنولوجيا السايبورج ،وكيف تكون الطبيعة المعرفية لديه،وهل يتسم بالوعي ،وهل يمثل أي مساس بالكرامة الإنسانية وكيف تكون العلاقة بين البشر والسايبورج ،إنها تساؤلات خطيرة تقودنا إلي مرحلة ما بعد الإنسانية أو الإنسان البديل !..
وفي بحث آخر تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي ونظرية العقل"،أجاب د.عادل عوض عن عدة تساؤلات متعلقة بالذكاء الاصطناعي منها، ماذا يعني الذكاء الاصطناعي وما أهدافه ؟، ما المواضع التي يتفوق فيها الذكاء البشري عن الذكاء الاصطناعي والعكس؟ ،وماذا يقصد بنظرية العقل؟،وهل للنظرية الحاسوبية للعقل أساس فلسفي؟وما نظرية التمثيل المعرفي؟،وهل من الممكن الدمج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي؟..وهي تساؤلات مهمة قد تلخص القضية من الألف إلى الياء !.

أتصور أنه من الحكمة،
وقبل أن نفكر في إنتاج نسخة جديدة من بني البشر في صورة "الإنسان البديل" ،يجب أن نحافظ علي النسخة الأصيلة، "ماستر الإنسانية الأصلي"،وأن نجتهد كي تقتصر منجزات تقنيات العلم المعاصر علي ما ينفع الناس في مختلف مناحي الحياة.
 ويجب التذكرة بإعادة تأهيل العقل البشري لإدارك قيم الحق والخير والعدل وكافة القيم الإنسانية السمحة،التي غابت عنا أو غيبت وتراجعت أمام تيارات النفعية والمادية ففاقد الشيء لن يعطيه ولن يصنعه أو يورثه أبدا !!.