د. مروه الشناوى تكتب من بيوت العلم إلى الصالونات الفكرية: السيدة نفيسة والسيدة سكينة نموذجًا مبكرًا للصالون الأدبي في الإسلام
الخميس 7 أغسطس, 2025
لا يمكن الحديث عن الصالونات الأدبية في العالم الإسلامي دون التوقف أمام الدور الرائد الذي لعبته المرأة المسلمة في إنتاج المعرفة وتداولها في محيط اجتماعي راقٍ يجمع بين العلم والأدب والروحانية. وبينما يُظن خطأ أن الصالونات الأدبية ظاهرة أوروبية خالصة تعود لعصر التنوير الفرنسي، فإن التاريخ الإسلامي، وتحديدًا في العصر العباسي وما قبله، شهد بدايات راقية للصالونات النسوية الفكرية، أبرزها في منزل السيدة نفيسة بنت الحسن، ومنزل السيدة سكينة بنت الحسين.
كانت السيدة نفيسة، المولودة في مكة والمنقولة إلى مصر، من آل البيت، ومشهود لها بالعلم والورع والزهد. لم يكن بيتها في الفسطاط مجرد مسكن، بل تحول إلى مركز علمي وروحي استقطب العلماء والطلاب والناس العاديين. فقد عُقدت في بيتها دروس في التفسير والحديث يحضرها الرجال والنساء، حتى أن الإمام الشافعي كان يتردد على مجالسها، وطلب منها الدعاء له حين اشتد عليه المرض، ودفن بجوارها بعد وفاته. اجتمع في منزلها العلم والتصوف والنقاش المفتوح، وهو ما يجعله يشبه في بنيته الصالونات الفكرية الحديثة. لقد كانت السيدة نفيسة تلقي العلم بصوتها على الحاضرين، ولا تكتفي بالحضور الرمزي أو الصمت كما كان سائدًا في زمنها، وهو ما يجعل صالونها نموذجًا لتحرر المرأة من دور المتلقية إلى المنتِجة للمعرفة.
أما السيدة سكينة بنت الإمام الحسين، حفيدة علي بن أبي طالب، فقد كانت من ألمع شخصيات القرن الأول الهجري، عُرفت بذوقها الأدبي الراقي، وبدورها الفاعل في إرساء مجالس الشعر والمناقشة في المدينة المنورة، ثم لاحقًا في مكة. لقد كانت تستضيف في بيتها شعراء كبارًا مثل جرير والفرزدق والأخطل، وتناقشهم وتنتقد شعرهم علنًا. كانت تُعرف بذوقها النقدي، ويقال إنها كانت تحكم بين الشعراء في المناظرات الشعرية، وكان صالونها مفتوحًا للرجال والنساء في مجتمع شديد الذكورية، مما جعل منه سابقة في حرية النقاش والجمال الأدبي. السيدة سكينة لم تكن مجرد مضيفة، بل كانت نقّادة أدبية، وراعية شعرية، ومرجعية في الذوق الفني. إنها تمثل مبكرًا دور المرأة الناقدة، لا الممدوحة فقط في القصائد.
يجمع بين منزلي السيدة نفيسة والسيدة سكينة عدة أمور تجعل منهما نواة حقيقية لما يمكن تسميته اليوم بالصالونات الأدبية النسوية في الإسلام. فقد تحول الفضاء المنزلي إلى منبر فكري يشارك فيه الجميع، وكان حضور المرأة فيه محوريًا ومنتجًا لا هامشيًا، كما تلاقت فيه تجليات العلم بالشعر، والدين بالأدب، في إطار من الوقار والحوار. كما أن هذا التاريخ يُعيد الاعتبار للمرأة العربية والمسلمة كمؤسسة للثقافة، وليس فقط متلقية لها، وهو ما يكسر الصورة النمطية التي رسّخها الاستعمار والاستشراق عن المرأة في الشرق الإسلامي.
إن استحضار نماذج مثل السيدة نفيسة والسيدة سكينة في الخطاب الأكاديمي أو الثقافي المعاصر، يُعطي زخمًا قويًا لأي مشروع يعيد بناء المشهد الثقافي الإسلامي من منظور نسوي معرفي، ويربط الماضي العميق بالحاضر الطامح إلى إعادة تعريف دور المرأة في بناء الأمة فكرًا وقيمةً.