د.احمد ابوالعلا يكتب الطبيب في الدراما والسينما: بين الملائكة والجلادين

الاثنين 23 يونيو, 2025

في المشهد الافتتاحي لأحد المسلسلات، يدخل الطبيب غاضبًا إلى غرفة المريض، يلقي نظرة باردة، يتحدث بلهجة متعالية، ثم يغادر تاركًا وراءه أسرة ممتلئة بالخوف والدموع. وفي مشهد آخر، يظهر الطبيب عاشقًا فوضويًا، يخلط بين مشاكله الشخصية ومهنته، أو ربما مجرّد خلفية صامتة بجوار البطل الحقيقي – الضابط، أو المحامي، أو رجل الأعمال.

هكذا، وعلى مدار سنوات طويلة، عانت صورة الطبيب في الدراما والسينما المصرية من اختزال حاد، يتأرجح بين ملائكية مفتعلة، وشيطنة سطحية، دون أن يُقدَّم كإنسان حقيقي من لحم ودم، له نبض وأخطاء، له هواجس وأحلام، له مسؤولية تُثقل كتفه دون أن يراها أحد.

في أفلام الأبيض والأسود، خاصة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ظهر الطبيب كرمز للوقار والأخلاق والخدمة العامة. يعالج الفقراء بالمجان، يضحي براحة جسده ونومه من أجل إنقاذ حياة الآخرين، ويعيش حياة بسيطة تشبه طهر ردائه الأبيض. لكنها كانت صورة مثالية، جامدة، بعيدة عن تعقيد الواقع وضغوطه، لا تُجسّد مشقة المهنة أو صراعاتها الداخلية.

ثم جاءت تحولات ما بعد الألفية، فإذا بالطبيب يتحوّل في بعض الأعمال إلى شخصية متغطرسة، أو مُهملة، أو مرتشية، بل إلى طرف في قصص الجريمة أو الفساد أو حتى القتل بالإهمال. انتقلنا من التبجيل غير الواقعي إلى التشويه غير المنصف، وكأن الطبيب لم يعد إنسانًا يؤدي وظيفة حيوية، بل كائنًا يحمل بذرة خطر أو سوء نية.

أحد أبرز أسباب هذا التشوّه أن الطبيب نادرًا ما يُستشار حين تُكتب عنه الدراما. المؤلف يكتب من تصور عام، أو تجربة شخصية، أو مشهد مسموع، دون وعي بالبيئة الطبية، أو ضغوطها، أو حتى تفاصيلها التقنية. يغيب الحوار، فيتحدث الخيال وحده. بل إن بعض الأعمال تُحمّل الطبيب ما لا يحتمله الواقع، وتجعله مشجبًا لأخطاء مؤسسية، أو شماعة للغضب الشعبي، دون أن تكلّف نفسها عناء التعمق.

نحن لا نطلب دراما تضع الأطباء في مرتبة الملائكة، ولا نطمح إلى تلميع زائف. كل ما نرجوه هو أن نرى الطبيب كما هو: شاب في مقتبل العمر يحرس الحياة على باب الموت، طبيبة تحاول أن تُداوي الآخرين وهي تتألم في صمت، استشاري ينام على كرسي مجاور لغرفة العمليات، وطبيب مقيم يتنقل بين الطوارئ والعيادة في نظام لا يرحم، ثم يعود إلى بيته ليُذاكر، ، أو يكمل نوبتجيته في مكان آخر.

نريد أن نراه يخاف ويخطئ ويعتذر، نريد أن نراه إنسانًا. فهذه ليست فقط صورة حقيقية، بل مادة درامية غنية، إن امتلكت النية الصادقة والبحث الجاد.

وإن كنا نلوم صناع الدراما على التشويه أو التسطيح، فإننا لا نعفي النقابات والجهات المهنية من المسؤولية. لماذا لا توجد وحدة استشارية داخل نقابة الأطباء تتواصل مع الكتّاب والمخرجين؟ لماذا لا تُنظم لقاءات دورية بين صناع الدراما وممثلي المهنة لتقديم صورة دقيقة وعادلة، كما تفعل وزارات الداخلية أو العدل حين تُعرض مؤسساتها في الأعمال الفنية؟

السكوت لا يحمي الهيبة، بل يترك الصورة تُشكَّل بأيدي من لا يعرف المهنة، أو لا يقدّر طبيعتها.

الدراما ليست مرآة صافية، لكنها تُشكّل الوعي العام. وحين تُشوَّه صورة الطبيب على الشاشة، فإنها تهتز في ذهن المجتمع، في وعي المريض، وفي أعين من لا يعرف عن الطب إلا ما يراه على التلفاز.

ولذا فإن الدفاع عن الصورة العادلة للطبيب، ليس رفاهية فنية، بل ضرورة اجتماعية وأخلاقية ومهنية. وإن لم يتحرك الأطباء أنفسهم – بالكتابة، والمشاركة، والنقد، والاقتراح – فسيبقى الطبيب في الدراما بين ملاك لا يُصدَّق، وجلاد لا يُحتمل.

ومضة ضوء في نفق التشويه: "لحظات حرجة" و"بالطو"
وسط سيل من الأعمال التي اختزلت الطبيب بين الكاريكاتير والاتهام، جاءت بعض المحاولات القليلة التي أنصفت المهنة، ولامست شيئًا من حقيقتها.
"لحظات حرجة"، الذي قُدم على مدار جزأين، كان من أوائل الأعمال التي اقتحمت كواليس المستشفيات بصدق، ونقلت إيقاع غرفة الطوارئ، وصراعات القرار السريري، وضغط النوبتجيات، دون تزييف أو مبالغة. العمل استعان بأطباء كمستشارين، ونجح في تقديم الطبيب في صورته المتكاملة: المنهك، المتحمس، المُرتبك أحيانًا، والمُنقذ حين يُحاصر الوقت والموت المريض معًا.

ثم جاء مسلسل "بالطو"، وهو عمل مختلف في نبرته وخفته، لكنه بالغ التأثير، لأنه رسم ببساطة الطبيب الشاب في قرية نائية، يحاول أن يثبت نفسه، يتعلم من الأخطاء، يصطدم بالواقع، ويبحث عن ذاته وسط نقص الإمكانيات وضغوط المجتمع.
قدّم العمل الطبيب كإنسان شاب يتطور أمام أعيننا، دون خطب رنانة أو ملائكية مزعومة، وهو ما جعله يلمس قلوب الأطباء والجمهور معًا.

تجربتا "لحظات حرجة" و"بالطو" تؤكدان أن تقديم الطبيب بصورة واقعية ليس صعبًا، لكنه يحتاج إلى نية صادقة، واستماع حقيقي، واحترام للمهنة ومن فيها.

 

.

.

.