مقابح الإعلام الرقمي.. بين الإثارة والتضليل !!
لم تعد الدقة والصدق أقصر الطرق إلي الإقناع،بل الإثارة وجذب الإنتباه والتضليل،لصيد الزبائن ونصب الفخاخ من خلال رسائل إعلامية منقوصة هدفها الأول والأخير الإثارة ونشر السلبيات والمقابح وكل ما هو مثير ،سواء للأذهان ،أو للغرائز عبر رسائل مشبوهة ومغرضة!.
عفوا..فهذه أهم ملامح الإعلام الرقمي الجديد من خلال منصات لا هم لها ولا هدف سوي تحقيق أرباح وثروات طائلة وحصد أعلي القراءات والمشاهدات والمتابعات!.
ومن أجل عيون السبق و"التيرند"، تتواري القيم المهنية والإنسانية والاجتماعية وتستباح الحياة الخاصة،وترسخ ثقافة الاستهلاك وعدم الرضا والقناعة،وخلق التطلعات الزائفة!.
ولم يعد مهما أن تصل إلي المعلومة الأهم وفقا للضوابط المهنية المتعارف عليها وأساليب الكتابة القصة الصحفية ،وعلي رأسها طريقة الهرم المقلوب،والتي تحتم وضع المعلومات الأكثر أهمية في الفقرات الأولي ثم الأقل أهمية في بقية الفقرات.
ومع أنماط الإعلام الرقمي الجديد فقد اختفت هذه الأساليب الأكثر موضوعية مع اختفاء الشفافية والصدق،وأصبح الأهم "تدويخ" القارئ مع السرد التشويقي التسويقي الممل للبقاء في الصفحة لأكثر وقت ممكن والمرور بأكبر قدر من الإعلانات والروابط الترويجية!.
وأمست الأنماط الجديدة مثل الأفخاخ التي تستدرجك بعناوين غامضة وأحيانا مثيرة وفي معظم الأحيان مضللة وعكس الحقيقة تماما !
كما انتشرت القصة الافتراضية المنمقة التي تدور حول حادث ما وتضيف المزيد من الإبهام والحيرة لتساؤلات الناس،ووفقا لطبيعتنا البشرية الفضولية يقع الكثيرون في هذه المصائد، وفي النهاية لن تصل إلي حقيقة الأحداث وتفاصيلها،ولكن المغرضين حققوا المراد والمبتغي!.
لقد مكث خبراء وأساتذة الإعلام دهرا طويلا يعدون لنظريات عديدة في الاعلام ووضع أسس الكتابة المهنية ،والتي تحقق أهداف عملية الاتصال الفعال، وصناعة رسائل إعلامية مكتملة العناصر، مع مراعاة الاعتبارات الإنسانية والقيمية وكافة الأبعاد الاجتماعية عند معالجة الأخبار والأحداث بكافة صورها، ولكن يبدو أن رياح التغيير الرقمي وقوانين زمن "النقارين" الجدد ستدمر تدريجيا ،وربمل بين عشية وضحاها ما تعارفت عليه قنوات الإعلام التقليدي عبر سنوات طويلة!.
وقد اختفت تدريجيا قوالب المصداقية والشفافية والدقة والصدق باعتبارها أهم عناصر الإعلام النظيف ،ثم جاء الإعلام الخبيث فقلب الطاولة سريعا وسمح للدخلاء في ركوب موجة الإعلام الرقمي.
وظهرت صحافة المواطن والتي تقمصها العديد من الهواة والمنتفعين واللاهثين خلف وهم "الترند"، أملا في حصد الاعجابات والأموال، لدي هؤلاء ممن تستهويهم الإثارة والتشويق والغموض وأحيانا ،يوظفون منصاتهم دون دراية،أو عن قصد لتحقيق أغراض مشبوهة!.
ومنذ أيام عايشنا نموذجا قبيحا لإعلام "الترند" الجامح ، عبر ممرضة الشرقية، التي ادعت بطولة زائفة بأنها أنقذت عددا المنكوبين بعد سقوط سيارتهم في إحدي الترع ،ووفقا للقصة التي اختلقتها بالاتفاق مع بعض المروجين وشهود الزور فإن الممرضة قد ألقت بنفسها في الترعة بكل جرأة وقامت بكسر نوافذ السيارة الغارقة وقامت بإنقاذ اربعة أطفال وسيدتين !.
وجاء الحصاد الخبيث مثمرا،وفي ساعات معدودة تحقق "الترند الكاذب" ،وما أرادته البطلة المزيفة ،وفي اليوم التالي كشف أحد الصحفيين الحقيقة الكاملة بعد التقصي والتحري لدي الجهات المعنية بالمستشفيات وأقسام الشرطة ومعاينة موقع الحادث وبسؤال الشهود،الذين اعترفوا بتقاضي بعض الأموال لنشر هذه القصة الكاذبة!
كما اقترفت بعض المواقع جرما حين روجت لهذا "الترند الزائف" دون التأكد من المصادر الرسمية،وأفلتت البطلة الزائفة من عقوبة خداع الرأي العام لعدم وجود قوانين صارمة تمنع هذه التجاوزات!.
كما أعاد للأذهان الذكري المؤلمة لمأساة فتاة المنصورة ،والتي احتوت فصلا قبيحا من فصول الانحطاط في مهنة الإعلام الرقمي، مجسدا فيما عرف بـ"صحافة اللايف"، التى ابتدعتها بعض المواقع والصحف الإلكترونية، وتاجرت بآلام وخصوصيات المواطنين في أسوأ استغلال لمواقع التواصل الاجتماعي عن طريق مجموعة من المنتسبين لمهنة الإعلام زورا وبهتانا، حيث لجأووا للكذب والخداع، من أجل الحصول على تغطية مباشرة للجريمة وأسبابها وتداعياتها.
وفي تقديري أن خطورة صحافة وإعلام المواطن العشوائية تتضاعف تأثيراتها السلبية في توقيتات الأزمات،وفي الظروف التي لا تحتمل التلاعب بالمشاعر ، سواء بالتضليل أو نشر شائعات وروايات منقوصة ،أو بإدعاء بطولات زائفة أو اختلاف حكايات لا سند لها من واقع !.
وتنشأ الحيرة مع تعدد روايات خبر أوحادثة ما ،فقد أصبح للحقيقة وجوه عديدة معظمها يدعم الشك لا الصدق واليقين!.
ومن الصور السلبية لهذا الإعلام القبيح تكريث ثقافة التحفيل، والشماتة ،السخرية، التنمر ،الاستهزاء ،الكبر والاستعلاء!.
ولكن توصيف المشهد المعاصر بصورته المتدفقة السائلة ليست حالكة الظلمة ،مهما رصدنا من مسالب ،فهناك محاولات لتقديم النماذج الإيجابية لكنها جهود فردية يجب أن تتبناها مؤسسات لكنها لا تضارع هذا الكم المؤسف من الأخبار المضللة، والذي بلغ معدلات قياسية غير مسبوقة!.
لقد نصب إعلام الموطن المنفلت نفسه حكما وقاضيا وجلادا،واخترق الخصوصيات وتتبع العورات بلا رقيب أو ضمير إنساني،أو قوانين صارمة تجرم هذه الأفعال الشائنة المغرضة!.
ويبقي الإعلام القومي بما يحويه من روافد متعددة ،أهمها مؤسسات الصحف القومية، بما لها من تاريخ عريق وقوانين مهنية هو طوق النجاة لصناعة الوعي وتحصين المجتمع من هذه المقابح والسخافات المتزايدة!.
وأتصور أنه من الحكمة دعم مؤسساته وتطويرها وفقا لآليات العصر فقد أثبتت مؤشرات ومعطيات الواقع والممارسات، أنها الأصل والحاضر والمستقبل!.