موسم الحصار الدرامي.. وتصحيح المسار !!
شهر رمضان المبارك فرصة وهدية ربانية لتصحيح مسار النفس وتجديد التوبة والإيمان والاستغفار والدعاء والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ونشر قيم المودة والرحمة والتسامح.
وقد عاش المصريون زمنا جميلا مع الدراما الرمضانية الراقية بكافة صورها الاجتماعية والتاريخية والدينية، وكان الناس يستمتعون بهذه التسلية، ويستثمرون الشهر الفضيل في توثيق عري الإيمان، ويمضون يومهم بصورة متوازنة ما بين العمل وأداء الصلوات والاستماع للبرامج الدينية الهادفة وعلي رأسها حديث فضيلة الإمام الشيخ محمد الشعراوي ، وأحيانا التعليق علي الحلقات وبرامج المسابقات والفوازير بصورة متزنة ومتوازنة، فكان الحصاد وفيرا مثمرا وفي إطار شيق وجذاب.
أما في زمن الضجيج وووسط هذا الزحام والزخم والتكدس وصراع الفضائيات، فقد أصبحنا أمام حالة غريبة أفسدت علي الناس روحانيات الشهر المعظم ،فلا نري إلا الضجيج والإعلانات المستفزة، بلا مردود قيمي باستثناء بعض الأعمال الوطنية النادرة ،حتي ضجر الناس بهذا السيل الجارف من الدراما الرمضانية!.
كما ضاق الناس بإستمرار بعض برامج المقالب أو بالأحري برامج السخف الممنهج، وفي المقدمة بطبيعة الحال يأتي برنامج رامز جلال، والذي يصر منتجوه علي إعداده بهذه الطريقة الهزلية العبثية المتفق عليها مسبقا، التي تستخف بعقول الناس ،وأقل ما يوصف به أنه برنامج تافه وقبيح ومبتذل !.
وأيضا ما يزيد الضجر والضيق، ويضاعف هذا الغثاء عديم الجدوي، هذا الكم الهائل من إعلانات المنتجعات الفاخرة ،وكأن غالبية الشعب أصبح من طبقة الأثرياء التي ترفل في النعيم وتنتظر شهر رمضان، لتختار لنفسها من بين الفيلات والشقق الفاخرة والمنتجعات والتي تبدأ أسعارها من عدة ملايين.
وأيضا حفلت مواقع التواصل باستهجان أبناء المحروسة بإعلانات المتاجرة بالحالات الإنسانية وإنفاق عشرات الملايين علي استجداء التبرعات، وإختراق خصوصية بعض البسطاء حتي ستار جلب الصدقات، رغم أن هناك جهات شرعية ورسمية تتلقي هذه التبرعات ،والأمر يتطلب فقط التذكرة عبر بعض البرامج الدينية،بدون جرح لمشاعر الناس بهذه الطرق المهينة.
وانضمت بعض الجمعيات المجهولة لجمع تبرعات للتربح ،دون تصريح من الجهات الجهات المختصة.
أيضا طفت علي السطح ظاهرة غريبة هي التحايل علي إذاعة النسخ الأصلية للأعمال الدرامية دون إلتفات لتعليمات الرقابة علي المصنفات.
وفي هذا السياق قرر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أمس وقف الحلقة الأولى من مسلسل "دنيا تانية" الذي تقوم ببطولته الفنانة ليلى علوي ويعرض في شهر رمضان الحالي لاحتوائه على مشاهد فاضحة وغير أخلاقية!
وأوضح إن منتجي المسلسل لم يحصلوا على تصريح من الرقابة على المصنفات الفنية، وقرروا إذاعته بالتحايل، فضلاً عن احتوائه علي مشاهد
خالفت الأكواد الإعلامية والضوابط الأخلاقية التي حددها المجلس.
وكنت أتمني أن تتصدي جهات علمية وإعلامية رسمية أو خاصة لإجراء بحوث تتضمن تحليل مضمون هذه الأعمال ورؤية المشاهدين خلال السنوات الماضية وتقديمها للجهات المعنية بالإنتاج والرقابة ،وتقييم ظاهرة التكدس الدرامي في هذا الشهر والتي ينفق فيها عشرات المليارات، دون فائدة حقيقية وحصاد إجتماعي وقيمي يسهم في بناء الوطن ماديا ومعنويا.
ولا أدري سببا مفهوما لفكرة تكديس الدراما والبرامج في هذا الشهر الفضيل فإذا زاد الشيء عن حده ،انقلب إلي ضده، وهناك ما يسمي بالتأثير المضاد فكثرة الإلحاح في عرض الرسائل الإعلامية الموجهة والدرامية المغرضة تأتي بآثار عكسية وسلبية،أهمها ضعف التأثر وإعراض المشاهد ، والهروب
للوسائل البديلة وقنوات ومنصات الإعلام الموازي الجديد، بحلوها ومرها!.
وأعتقد أن هناك ضرورة عصرية ومجتمعية لتكثيف دراسات وقياسات الرأي العام والمتلقي أو الجمهور المستهدف ، علاوة علي فتح قنوات مباشرة للتواصل لمعرفة رؤي ومقترحات المشاهدين بما يسهم في تعديل شكل ومضمون وتوقيت الرسالة الإعلامية.
والحقيقة المرة أنه وحتي في غير رمضان يتحسر المصريون من وقت لآخر علي تراجع الدراما المصرية في مواجهة الدراما الوافدة وغياب الفن الجميل الذي غادر بلادنا منذ بداية الالفية الجديدة ، واستشرت مظاهر التراجع في كافة الصنوف الفنية سينما ،مسرح، مسلسلات، برامج في مواجهة الغزو الدرامي التركي والهندي وغيره ، والذي يتضمن ثقافات غريبة ومغايرة وتزييفا لبعض حقائق التاريخ وتجميلا لواقع ، وفقا لوجهة نظر منتجيه.
ومما يزيد الحسرة والمرارة حجم الميزانيات الضخمة التي أنفقت خلال السنوات الماضية لإنتاج أعمال درامية دون المستوي ..نصا واداء واخراجا..ركز أغلبها علي العنف المجتمعي والبلطجة والإثارة والعلاقات الاجتماعية الشاذة، وافتقدت لرؤي بناءة ، فالفن سيظل أهم روافد القوي الناعمة التي تسهم بطريق مباشر او غيرمباشر في تشكيل الوعي والوجدان وبناء الاتجاهات القيمية الايجابية وتجسير الفجوات بين الواقع والمأمول ،والمساهمة في تنمية الانسان، ورصد لهموم وتطلعات الناس من خلال معالجات درامية شيقة وأفكار جديدة ومبتكره.
والصورة ليست حالكة الظلمة ،فقط تتطلب خطوات جادة وإرادة فاعلة لتصحيح المسار !!