أزمات السودان.. بين حلم الثورة وشبح الفوضي
سيناريو الثورات والإنتقال الديمقراطي في دنيا العرب أصبح ستارا يتواري خلفه الكثيرون ،حاملين أجندات متباينة الأهداف والإستراتيجيات!. وما بين طموح الثورة والتغيير وتصاعد الخلاف السياسي الحاد بين أبناء الوطن الواحد تقف السودان علي أعتاب مرحلة سياسية فارقة قد تشكل ملامح المستقبل ،إما المضي قدما في صناعة التوافق الوطني وحفظ مكتسبات الثورة والتغيير أو الإنزلاق تدريجيا لمستنقع الفوضي والخراب والدمار. واعتقد ان تطورات الأحداث وتداعياتها في السودان وتأزم المشهد السياسي بين البرهان وحمدوك، وبين العسكريين وجبهة الحرية والتغيير وإعلان حالة الطواريء ، وإستمرار العناد المتبادل ،ودخول البلاد النفق المظلم سيؤدي حتما لأزمات جديدة. وقد بدت الشواهد جلية لمن يريد أن يعي ويستوعب حصاد الصراع والنزاعات والخصومة الوطنية.. شكاوي مستمرة من تضاعف أسعار السلع الغذائية ورغيف الخبز وإختفائه بالعديد من المناطق بالعاصمة والخرطوم ومختلف أرجاء البلاد ،علاوة علي إنتشار الجشع والإستغلال والشلل التام بمعظم المصالح الحكومية ، بعد أن أغلق العديد من المؤسسات الخدمية والتعليمية أبوابها منذ اندلاع التظاهرات والمليونيات اعتبارا من النصف الثاني من شهر أكتوبر ، وتصاعد الدعوات لعصيان مدني شامل. ووفقا لتقارير ترصد الأحداث ، تتجه الأمور لمزيد من التأزيم والتعقيد مع غياب الحلول الوسطية والرؤية المتعقلة،ورفض القوي السياسية التحاور مع البرهان ،والإصرار علي فرض شروط صعبة وغير عملية. وبقراءة متأنية للمشهد السوداني نجد أن هناك من يحرك الفتنة ويدفع بالبلاد للمجهول، لعرقلةكافة الجهود الإصلاحية وشغل السودان عن قضايا مصيرية تتعلق بمحاربة الفساد،وتجاوز مشكلاته الإقتصاديه، علاوة علي إيجاد حلول لتداعيات أزمة سد النهضه والمشكلات الحدودية مع أثيوبيا والإندماج مع دول العالم في علاقات متوزانة، وغيرها. وبعيدا عن سرد أحداث وتشابكات المشهد السياسي السودان الملتبس ، والصراع المتصاعد بين العسكريين والقوي المدنية، فالتوافق أصبح ضرورة وطنية ومسئولية جميع الأطراف لحماية مكتسبات الثورة وحفظ الوطن من الفوضي ، وتجنب الإنقسام والتنازع علي السلطة وإستعادة ذكريات مؤلمة ومريرة عايشتها دول عربية عريقة ، وكانت سببا في ضياع وتدمير سوريا والعراق وليبيا واليمن، ومؤخرا انضمت لبنان للقائمة السوداء!. وبتفحص مشهد ثورات العرب وحركات والتغيير المنصرمة ، نجد أن قيم العدالة الإجتماعية والحرية وكافة حقوق الإنسان، كانت أهم الأهداف السامية لكل ثورات التحرر ،لكن التاريخ يشهد أن معظم هذه الثورات تحركها أهداف نبيلة ويقطف الثمرات جماعات تعيش في الظل ومتسلقون يرتادون ثياب الثورة والوطنية ويغيرون مسارها لتحقيق أغراض ،وأهداف خاصة !. وقد رفعت معظم ثورات الربيع العربي شعارات نبيلة وطرحت أفكار مبدعة، وإلتزمت بالسليمة ، ثم تحولت لموجات من العنف والفوضي ، حتي أشهر الثورات الإنسانية كالثورة الفرنسية ،في آواخر القرن الثامن عشر (١٧٨٩- ١٧٩٩) ، فقد حملت شعارات سامية للتحرر، ثم تحولت لثورة دموية ومحاكمات غير عادلة وإعدامات بالجملة لقادتها ،وبأبشع الوسائل ،وسيطرة طبقة البورجوازية علي مقاليد السلطة ، بعد سلسلة من الإضطرابات والصراعات. اما الثورات العربية خلال العشر سنوات الأخيرة فقد ساعدت جماعات ضالة ارتدت ثياب الحرية وحقوق الإنسان ، وجاء حصاد الربيع خريفا طويلا، وكابوسا مفزعا، وحفظ الله مصر الكنانة من مكر وتدابير صناع الفوضي والدمار. ولا أدري سببا مقنعا لاندلاع الثورة السودانية فهناك خارطة طريق محددة التوقيتات والمعالم ، وحكومة وإدارة عسكرية ومدنية مشتركة لحين الإنتهاء من ترتيبات نقل السلطة في إطار ديمقراطي ،ومعالجة خطايا حكم البشير وأعوانه. وأتمني أن تعي كافة الأطراف المتناحرة دروس الثورات العربية الأخري ، وحصاد النزاعات ، والتوجس المبالغ فيه من إستمرار تواجد الجيش في السلطة لحفظ البلاد من مكر المتآمرين والمغرضين. واعتقد أن مهمة المثقفين والنخب السياسية والسودان بث الوعي بطبيعة المتغيرات ، وإستيعاب كافة التجارب العربية ،وإدراك أهمية التوافق وقبول إختلاف الرؤي والسياسات والتعاطي مع الأحداث بضمير وطني ،دون استثئار فريق بالسلطة دون الآخر . وما بين تجاوز عنق الزجاجة ،والحفاظ علي مؤسسات الدولة وصولا للفترة الإنتقالية، أصبح السودان في مفترق الطرق بعد أن إشتعلت الإحتجاجات والتظاهرات من جديد ، وبدت علي السطح أطراف تحاول قطف الثمار مبكرا والظفربحظايا لعبة الثورة وحجز مقعد في المشهد السياسي القادم. ويحسب للثورة السودانية حتي الآن، الإلتزام بالسلمية والإتزان ،وأتمني أن يظل الجيش السوداني مساندا للسلطة المدنية ،باعتباره رمانة الميزان لحفظ إستقرار السودان ،وإتقاء لشرور وشطحات القوي السياسية المختلفة،ولكن يبدو أن هناك من يحاول غرس الفتنة وسكب الزيت علي النار الكامنة. وأتصور أنه لاسبيل لتجنب التصعيد سوي تكاتف كافة الأطراف بمختلف توجهاتها الإسلاميةوالليبرابية واليسارية ، وإقرار وثيقة وطنية موحدة تسهم في تدشين ملامح المرحلة القادمة ، وتوقيتات المرحلة الإنتقالية القادمة وتشكيل حكومة توافق وطني ، وعودة مجلسي السيادة والوزراء للعمل من جديد. ومن الأصوات المتعقلة للخروج من مأزق الثورة المظلم وضمان التحول المدني دعوة د.أحمد المفتي الناشط الحقوقي السوداني ،مطالبا التنظيمات الجماهيريه، أن لا تترك النخب السياسية ، تنفرد بقطف ثمار حراك يوم 21 اكتوبر 2021 ، واعتصام القصر . كما أشار في تدوينة له بصفحته الرسمية إلي أنه مالم يتم توحد الجماهير ، حول اجابة واحدة ، فان الحال لن ينصلح ، اما توحد النخب السياسية ، فدونه الفشل ، لأن كراسي الحكم اقل من عدد النخب السياسية ، ولذلك يظل صراعهم علي تلك الكراسي أبد الدهر !. كما وصف المفتي عمق التباين بين قوي الثورة المدنية ، وهو حقيقة واقعة ، وإن كان البعض ينكره ، علي الرغم من ان هدفها واحد ، وهو اكمال الفترة الانتقالية ، واقامة انتخابات حرة ونزيهة في نهايتها ، وفق نصوص الوثيقة الدستورية. واتفق مع المفتي في أن التباين ، هو ما مكن الحاضنة السياسية ، من قطف ثمار كل الحراكات السابقة لجماهير الثورة ، وذلك لتحقيق أجندتها السياسية ، وليس لرفع المعاناة عن الجماهير . وهو ما يتحتم ضرورة أن تندمج الأطراف السياسية في كيان جامع " واحد " ، يضم كافة الكيانات السياسية وجماهير الثورة ، وبرئاسة جماعية ، تضم ممثلا لكل كيان ،و التوصل الي خارطة طريق ، لما تبقي من الفترة الانتقالية ،و رفع المعاناة عن كاهل الجماهير ، واستكمال تنفيذ أهداف الوثيقة الدستورية. وايضا تحديد دور الكيان الواحد ، في الانتخابات القادمة ، وعدم ترك الملعب السياسي ، للحاضنة السياسية ، والاحزاب التقليدية ، كما حدث عقب ثورة أكتوبر 1964 ، وانتفاضة ابريل 1985. ويظل التحول الديمقراطي مرهونا برغبة جميع الأطراف في مواجهة كافة التحديات والخروج من هذا النفق المظلم.