الحوار وأهميته ج (١)
منهج الفكر الإسلامي يعطي الحرية الشخصية وأن لكل فرد الحرية في اختيار دينه الذي يؤمن به ويعطيه الحق في حرية الرأي والتعبير والاعتراض وحرية التفكير والإبداع وضرورة التحاور مع الآخر، لذا أرسى الرسول أدب الحوار بالنقاش والشورى وسار من بعده الصحابة على نهجه، فالشورى أساس الاختلاف في الآراء للتناقش حولها وتطبيق الأفضل والأيسر منها للأمة. والاختلاف أمر صحي للتحاور والتناقش وتعاصف الأفكار فلابد من قبوله وهذا للوصول للقرار الأصوب. وأكبر دليل على قبول الاختلاف وأدب الحوار في الفكر الإسلامي قول الله تعالى: - (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ويقصد بهم هنا المشركين المختلفين معهم في العقيدة أن نتحاور بالحسنى وهذا بالنقد الفكري الموضوعي دون خلاف أو إفساد للود فالتحاور مع الجميع بالجدال الحسن وأيضاً التأكيد على ضرورة التعاون مع المختلفين معهم ضد الظلم والاستبداد طالما الهدف إقامة العدل مع الحفاظ على النقد الموضوعي للخلاف الفكري سواء ديني أو ثقافي. ونجد أن الاختلاف موجود منذ الأزل فكان موجوداً بين الصحابة أنفسهم تدليلاً على وجود آراء وأفكار مختلفة ولكن لم يتفرقوا أبداً وإنما اختلفوا وجادلوا للوصول إلى الحق. فحدث عندما أمر الرسول بالتوجه إلى بني قريظة وقال: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. فأذن العصر وهم بالطريق ووصلوا بعد المغرب فصلى البعض العصر في وقته وقالوا (بل نصلي) وقال آخرون (لا نصلي حتى نأتيهم -بني قريظة-). فهؤلاء صحابة رسول الله اختلفوا وتناقشوا وكل منهم اتجه لما يراه صحيحاً وهو بينهم ولم يعنفهم تشجيعاً على التفكير وحرية الآراء والأهم أن بعد الاختلاف والنقاش لم يتفرقوا ولم يخطئ أحد الآخر وظلوا على وحدتهم وودهم (فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية). فكان لابد أن يقبل الآخر ويقبل الاختلاف معه ولقبول الاختلاف مع الآخرين كان لابد من أدب الحوار بين المتناقشين في الحوارات ذات الآراء المختلفة للوصول لنتيجة ورأي متفق عليه من الجميع وإلى أصح الآراء. -نماذج للحوار بين المختلفين في الآراء ووجهات النظر: - 1- حوار الله مع الملائكة وإبليس: - -قال الله تعالى: - (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) نجد فيه أن الله تحاور مع الشيطان إبليس رغم أن الله يعلم ما بداخل الشيطان ويعلم أنه على خطأ ولكن ليضرب مثلاً على أهمية الحوار والنقاش وليعلم الملائكة بنيته بأنه سيخلق بشراً ليكون خليفة له في الأرض واستمع إلى وجهة نظرهم في هذا المخلوق الجديد. دليل على حرية الرأي والتعبير والاستماع إلى المعارضين بصدر رحب لحرية الرأي والتعبير ونتج عنه أن الصحابة كانوا يحاورون ويجادلون النبي بكل شيء نتيجة الاستقراء السليم والفهم الصحيح للقرآن. 2- حوار سيدنا موسى مع فرعون: - جادله فرعون بأنه رباه في داره وقتل شخص وهرب وحاول موسى أن يجادله ويهديه إلى الصواب عندما قال له: - (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)). 3- حوار النبي مع عتبة بن ربيعة: - أكد فيه النبي على حسن الاستماع وأدب الحوار لما قاله عتبة في تعدٍ سافر على النبي بالكلام ودلل على حسن الاستماع عندما كان ينتظره حتى ينتهي من حديثه فيرد عليه وكل هذا من أجل الوصول إلى الحق ونقطة مشتركة فوصل في النهاية إلى مراده في الحديث الذي بدأه عتبة محاولاً إقصاء النبي عن الدعوة ومساومته. فابتدأ عتبة كلامه يرفع من قدره بقصد إحراج النبي قائلاً: يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السِّطَة -أي المنزلة- في العشيرة والمكان في النسب. ثم لوح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلاً: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. يريد وبمنتهى الوضوح أنك متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهّان ومن يخدم الأصنام، أنت قد أقدمت على هذا العمل، وقد تسبب عنه لقومك كذا وكذا، وقد يكون ما أقدمت عليه هذا مجرد خطأ غير مقصود، ومن ثَمَّ -ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت. فقال له النبي مناديًا إياه بكنيته وبأحب الأسماء إليه: "قل يا أبا الوليد". يريد أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويريد أن يعطيه فرصة للحديث حتى يعطيه بعد ذلك بدوره فرصة للسماع. قال عتبة: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه. لم يقاطع النبي محمد عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟". أجابه عتبة: نعم. وهنا قال له النبي: فاسمعْ مني. قال عتبة: أفعل. وفي محاولة جادة لتطويع الهدف بدأ النبي محمد في الحديث، فلم يتكلم بكلامه هو، إنما تكلم بكلام الله بالقرآن وقرأ عليه سورة فصلت. 4- حوار يوم السقيفة: - وقد شرحناه في (باب السياسة في نقطة الحقوق السياسية) ويدل على مدى التحاب في الاختلاف رغم شدة الخلاف والنقاش فيما بينهم على تولية الخلافة بعد الرسول إلا أنهم في النهاية توصلوا لرأي واحد اتفقوا عليه وهذا إحقاقاً للحق ولصالح الأمة. 5-حوار عمر بن الخطاب مع سيدة المسجد: - حدث أن ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال: أيها الناس، ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول (...وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (النساء: 20). فقال: اللهم غفرا، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، ومن طابت نفسه فليفعل، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا وقال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وقيل إنه قال (أصابت امرأة وأخطأ عمر). فكان هذا تدليلاً على أهمية الحوار ووجوب وجوده وتقبل كل الآراء والخلاف من أجل الوصول إلى الحق والحقيقة وأدق الوسائل المناسبة للتطبيق، وبالحوار تنزع الأحقاد والخلافات وتفتح آفاق التعاون من أجل المشاركة في بناء المستقبل الأفضل. ويجب العلم أن هنا فارق كبير بين الاختلاف في الرأي والخلاف الشخصي، فلا يجب أن يتحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف شخصي وهذا يحدث بتقبل وجود آراء مختلفة للجميع. قال شمس التبريزي: - (النقاش مع شخص واعي متعة وراحة عظيمة، حتى وإن خالفك الرأي يفتح لك آفاقاً جديدة). -للحوار أهمية كبرى وأهداف عليا هي: - 1- توضيح وجهات النظر المختلفة وما لدى الآخرين من رأي. 2- وجود آراء مختلفة وتفتح الناس على الآراء المتعددة. 3- الوصول إلى الرأي الأصلح وأفضل وجهات النظر المشتركة. 4- الوصول إلى اليقين والحق وتوضيحه للرد على الباطل. 5- حدوث المودة بالحوار الجيد. 6- دعم الشورى والديمقراطية النفسية بداخل الأفراد بتقبل آراء الآخرين. 7- تعاصف العقول والعمل الفكري الدائم بالعقل. 8- حدوث تفاهم وتقارب حتى بعد الخلاف. 9- التقارب في وجهات النظر. 10- تبادل المعلومات والاستفادة بين المتحاورين والمستمعين. 11- تصحيح أخطاء ومفاهيم الناس بعضهم لبعض. 12- نشر العلم والثقافة وتقبل الآخر. 13- قبول الاختلاف في الآراء. 14- وجود حرية رأي وتعبير عن الأفكار.