رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة الثامنة

الجمعة 25 سبتمبر, 2020

الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.

حلقة ٨
جاءت لتخبره بأن هناك زائر يدعى حامد بك يريد مقابلته.. صُعقت عندما فوجئت بالأوراق التي تناثرت بعرض الغرفة وطولها..!  ترى ما الذي أغضبه في عملها وأثار زوبعته بهذا الشكل؟  
راجعتها كلها بعناية قبل أن تعرضها عليه.. فهل هناك ما أغفلته واكتشفه هو..؟  حتى وإن كان قد اكتشف في حساباتها بعض الأخطاء فليس من حقه أن يثور بهذه الطريقة ويلقي بمجهودها أرضًا.. عليه أن يعلم بأن خبراتها لم تنضج بعد إذا ما قورنت بخبراته أو بخبرات الآنسة تهاني..!
تأملته بريبة في نفس اللحظة التي دلف فيها زائره إلى غرفة مكتبه مهللًا:
- أدهم الشربيني.. لك وحشة يا صديقي. 
كادت أن توبخ ذلك الهمجي الذي سمح لنفسه بالدخول عنوة قبل أن تأذن هي له.. لولا تدخل أدهم الذي نهض ليصافحه في حرارة لم تقلل منها ابتسامته الوقورة التي بالكاد ارتسمت فوق شفتيه. 
- حامد بك.. يا لها من زيارة كريمة..!
استرخى حامد في كرسيه وابتسم قائلًا:
- أولًا.. أنا سعيد بهذه الزيارة لأنني رأيتك. 
- شعور متبادل.. ولكن ماذا عن ثانيًا؟
ضحك حامد قائلًا:
- يا إلهي.. أنتَ لن تتغير أبدًا.. كل ما يشغلك هو العمل. 
اتسعت ابتسامته ولم يعلق فأردف زائره:
- حسنًا.. جئتكَ بخصوص أجهزة الكمبيوتر التي استوردتها حديثًا.. أنا في حاجة إلى جزء منها.. وأرجو أن تمنحني سعرًا مقبولًا.
- بالطبع حامد بك.. حدد السعر الذي يناسبك واعتبره في خزانتي منذ الآن.. ما الكمية التي تريدها؟
عض على شفتيه ساخطًا عندما صمت الرجل فجأة وراح يحدق في جسد إلهام بنظرات نهمة تملؤها الشهوة بينما هي قد انحنت أرضًا غير مبالية لتجمع الأوراق المتناثرة وتعيدها للملف.
هتف بعصبية لم يحاول إخفاءها:
- اتركيها الآن وعودي إلى مكتبك.  
بدا وكأنها لم تسمعه فأردف في نبرة أعلى:
- آنسة إلهام.. انهضي.
التفتت إليه في لامبالاة قائلة:
- أخشى أن تتلف إحداها.. على أيـ..........
قاطعها في حدة:
- يكفي هذا.. ارسلي الساعي ليجمعها. 
همت أن تعترض عندما لاحظت نظرات حامد الوقحة تلتهم ساقيها.. نهضت على عجل وراحت تهندم ملابسها في عصبية قبل أن تقذفه بنظرات نارية قائلة:
- هل تحب أن أرفع تنورتي قليلًا حتى يمكنك مشاهدة ساقىّ بشكل أفضل؟
رفع الرجل حاجبه في دهشة أقرب للصدمة قبل أن ينفجر ضاحكًا بمرح بينما زفر أدهم قائلاً في غضب:
- اذهبي الآن. 
وضعت الأوراق أمامه وذهبت ساخطة تتبعها نظرات حامد الذي حاول أدهم جذب انتباهه بعيدًا عنها بلا جدوى. 
- حامد بك.. لم تخبرني بعد بالكمية التي تريدها.
وكأن الرجل لم يسمعه هتف:
- من أين أتيتَ بهذه الفتاة؟
- ماذا؟
- تسلب العقل.
غمغم أدهم وكأنه يوجه سؤاله لنفسه قبل أن يوجهه إلى حامد:
- ما الذي يغريكَ فيها؟
- كل ما فيها يغريني.. بدءًا من شعرها الناري حتى ساقيها الناعمتين.  
ضحك أدهم في عصبية بينما أردف الرجل متيمًا:
- هذه الفتاة النارية لن يقدرها سوى رجل مثلي. 
- دعك منها وأخبرني بالكمية التي تريدها من الأجهزة. 
- سآخذ الكمية كلها لا تقلق.. وبالسعر الذي تحدده أنتَ. 
هم أدهم أن يعلق ولكن حامد اقترب برأسه منه وأردف في فضول:
- ولكن أخبرني أولًا من أين أتيت بها؟
- لماذا تشغل نفسك بشأنها لهذا الحد..؟ علمتُ بأنكَ تزوجتَ الشهر الماضي من حسناء بالكاد تجاوزت العشرين. 
ضحك حامد قائلًا:
- كان هذا الشهر الماضي كما قلتَ بنفسك.
- هل تقصد بأنكَ قد تتزوجها هذا الشهر؟
- لو عجزت عن الحصول عليها بلا زواج.. ما الذي يمنع؟
مرر أدهم أصابعه في شعره بعصبية لم تخف على حامد الذي همس وهو يحدق في وجهه متفحصًا:
- هل يهمك أمرها..؟
- ماذا تعني؟ 
- أعلم بأنكَ لا تفكر في النساء كثيرًا.. ولكن لكل قاعدة استثناء.. خاصة وإن كانت إلهام هي المستثناه.
ابتلع أدهم ريقه بصعوبة.. مادام حامد قد التقطت اسمها من المرة الأولى التي سمعه فيها.. فهذا يعني بأنها عششت في رأسه ولن يتركها لتفلت منه كعادته مع أمثالها.  
أجابه في حدة رغمًا عنه:
- أنا لا أفكر في النساء لا كثيرًا ولا قليلًا.. كل ما في الأمر أنها تخص صديق لي.. هو من توسط لها للعمل بمكتبي. 
- اخبر صديقك هذا بأنني مستعد أن آخذها للعمل عندي بلا أية وساطة.. بل سأدفع له مكافأة.. وربما لكَ أنتَ أيضًا إن أردت.. ما رأيك؟
- عذرًا.. أخبرتك أنها تخص صديق لي وهولا ينوي المتاجرة بها.
تنفس الصعداء عندما نهض حامد أخيرًا ونظر في ساعة يده قائلًا:
- سأترككَ الآن.. فكر في الأمر جديًا.. ألستُ أنا أيضًا صديقك..؟
أستدار إليه مرة أخرى قبل أن يصل إلى الباب وأردف:
- يمكنكَ أن تترك لها الخيار.. أخبرها بالأمر وأنا واثق بأنها ستوافق.. يكفي أنني سأحررها من الزي المدرسي الذي ترغمها على ارتدائه.
تصنع أدهم ابتسامة باهتة ولم يعلق فعاد الرجل يقترب منه قائلًا:
- ما رأيك لو تحضرها وتخيرها الآن.. اتركني أنا أعرض الأمر عليها؟
لم يحاول أدهم إخفاء غضبه وهو يجيبه:
- يمكنكَ أن تعرض عليها الأمر في أي مكان يروق لكَ عدا مكتبي.
ضحك حامد قائلًا:
- حسنًا يا أدهم.. سأفعل.
انصرف زائره وتركه يحترق.. هل ما يشعر به الآن ناتج عن خوفه على حامد بك منها..؟!  لماذا لا يتركها له وكلاهما أشد وقاحة من الآخر..؟ حامد أكثر الرجال سعيًا خلف شهواته وملذاته وهي من أكثر النساء دلالًا وخلاعة.. سوف يتركها بعد شهر أو شهرين.. بعد عام على الأكثر.. وهي سوف تجني من ورائه ثروة لا بأس بها.. بل ربما تختار لها زوجًا آخر من هذه الطبقة الثرية قبل ان تتحرر منه ويطلقها رسميًا.. سوف يخلص مازن منها.. سوف يتخلص هو أيضًا من إغوائها المستمر ويخلص مؤسسته منها...
ضغط على الزر فوق مكتبه بعصبية ودعاها للحضور.. وجدها أمامه وكأنها كانت خلف الباب تنتظره كي يمنَّ عليها بالدخول:
- أمرك أدهم بك.. هل أجمع بقية الأوراق من فوق الأرضية؟
ظل يحدق في وجهها حتى أربكها فأشاحت به بعيدًا عنه.. هل تخضب احمرارًا بالفعل أم أنه يتوهم هذا؟ طرد الفكرة من رأسه سريعًا عندما انحنت لتلتقط الأوراق غير مبالية بما حدث منذ قليل.. حانت منه نظرة عابرة إليها قبل أن يبعد عينيه عنها ويحدق من نافذة مكتبه في اللاشيء.. معذور حامد في إلحاحه إن كان قد أصابه هذا الشعور الذي أصابه هو لتلك النظرة الخاطفة..!
- أدهم بك.. أنتَ لم توقع الأوراق بعد.
استدار إليها بحدة قبل أن يقترب منها عابسًا.. شهقت في ذعر عندما راح يجمع خصلات شعرها المتناثرة بعنف ليضعها كلها في كومة واحدة خلف رأسها ويربطها بتلك الربطة التي نزعها من شعرها بوحشية لا تقل عن الطريقة التي أعادها إليه بها.. لم يدرك في قمة غضبه أنها قد أصبحت بين ذراعيه.. ولا أن عطره هو ما خدرها فلم تعد تشعر بقسوة جذبه لخصلاتها. 
همست بصوت يختنق انفعالًا:
- أدهم... أدهم بك يكفي هذا.
تنبه فجأة إلى كونها تلتصق بصدره فأزاحها عنه في عنف قائلًا:
- أوامري يجب أن تطاع كاملة.. تُنفذ حرفيًا.. عندما أطالب بجمع الشعر إلى الخلف فأنا لا أجزئه.. لا خصلات متناثرة بعد اليوم.. هل كلامي واضح؟
منعتها انفعالاتها من إجابته.. فظن صمتها تمردًا وعاد يصرخ فيها ثائرًا:
- هل أرضت غرورك نظراته النهمة إلى جسدك؟
- لم أكن أعلم أنه ينظر إليَ.
- أحقًا؟
- حقًا.. ومن أين لي أن أعلم.. كل ما كان يشغلني هو جمع الأوراق لمعرفتي بمدى أهميتها بالنسبة لكَ؟
صرخ غاضبًا:
- فلتذهب الأوراق إلى الجحيم.. ليذهب عملي كله للجحيم.. كان يجب أن تنهضي ما إن أمرتك بذلك.
لم تعد قدماها قادرتان على حملها.. هل يعقل أن يغار عليها لهذا الحد؟ أدهم المتصلب المتحجر ينصهر غيرة من أجلها.. برقت عيناها هامسة:
- أعذرني لم أنتبه للأمر.. سوف أكون أكثر حرصًا في المرة القادمة.
هدأت ملامحه قليلًا قبل أن يشير لها محذرًا:
- نعم.. من الأفضل لكِ أن تنتبهي.. فأنا لن أحتفظ بصوابي للأبد.. والآن عودي إلى مكتبك.
همست في سعادة:
- أمرك.
ما كادت تبتعد عنه حتى عاد يناديها صارخًا:
- انتظري. 
استدارت إليه في لهفة فتابع ساخطًا:
- لا أتذكر أن الزي الذي أوصيتُ بتصميمه كان يحتوي على هذه الفتحة الكبيرة في ظهر "الجيب".
- أنا من فتحتها.
- ماذا؟ وتتجرئين على قول هذا أمامي؟
- هل تريدني أن أكذب عليك؟
- الكذب بالنسبة إليكَ حسنة تفتقدينها.
زفرت ساخطة فأردف:
- ولماذا فعلتِ ذلك؟
- هل تقصد لماذا فتحت تنورتي؟
- نعم.
- حتى أستطيع أن أتحرك بحرية.. كانت تعوق حركتي كثيرًا.
قال ساخرًا:
- ولكنها في المقابل لا تعوق حركة زميلاتك الأخريات.
- تعوقها بالطبع.. ولكنهن يرهبنك فقط.
- وسوف أعلمكِ أنتِ أيضًا كيف ترهبينني.
ضحكت في لامبالاة زادته سخطًا وحنينًا في آن واحد ولكنه تصنع القسوة قائلًا:
- سدي هذه الفتحة حالًا.. وعودي لتأخذي الأوراق بعد أن أوقعها.
غمغمت في غنج مثير:
- سوف تعوق حركتي. 
- إعاقة حركتك أفضل كثيرًا مما تفعلينه بالآخرين.
استدارت قائلة:
- أنظر جيدًا.. فهي ليست بالسوء الذي تتخيله. 
ابتلع ريقه قائلًا:
- اخرجي فورًا ونفذي ما طلبته منكِ.
عادت بعد فترة لتأخذ منه الأوراق التي وقعها.. نظر إليها في دهشة وهي تقترب منه ببطء وكأنها رجل آلي يتحرك بـ "الريموت كونترول".
- لماذا تمشين بهذه الطريقة؟
استدارت ساخطة.. كانت قد سدت الفتحة الكبيرة كما طلب منها.. تصنع الجدية قائلًا:
- هذا أفضل كثيرًا.
- ولكنني لا أستطيع الحركة.
- سوف تعتادين الأمر بمضي الوقت.. تحلي بالصبر.
فتحت عينيها مستنكرة فأردف غير مبالٍ:
- هيا.. خذي هذه الأوراق وعودي لمكتبك. 
تقدمت عابسة والتقطت الأوراق.. مازال متجهمًا وكأنها لم تفعل كل هذا إرضاءً له.. ابتعدت بخطوات سريعة لم تسعفها بها تنورتها الضيقة فسقطت أرضًا وراحت تتأوه في ألم:
تمتم ساخطًا في تأثر قبل أن يقترب منها ويساعدها على النهوض.. ما لبث أن أجلسها فوق الأريكة وجلس بجوارها قائلًا:
- هل أنتِ بخير.. حركيها حتى نطمئن. 
هتفت في عبوس ممزوج بالألم وهي تدلك الكدمة التي أصابت ركبتها:
- ها أنا قد سقطت بسبب التنورة الضيقة.. وها أنتَ قد هدأت أخيرًا.. وكأنكَ فرحٌ بسقوطي. 
ابتسم قائلًا:
- بل سقطتِ بسبب كعب حذائك العالي الذي تصرين على ارتدائه رغم تحذيري المتكرر لكِ.
تطلعت إليه بغضب طفلة فاتسعت ابتسامته قائلًا:
- ثم أنني لستُ سعيدًا بسقوطك حتى وإن كنتِ تستحقين العقاب بعد عصيانك لأوامري.. سقوطك آلمني جدًا.
همست:
- أحقًا؟
بادلها همسها وهو ينظر في عينيها شاردًا: 
- حقًا.. أنا منزعج لأجلكِ أكثر مما تتخيلين.
لم تعد في حاجة لتسمع المزيد بل امتدت أناملها ببطء لتتلمس وجنتيه قبل أن تغرسها حالمة بين غمازتيه العميقتين.. انتفض فجأة وأبعد وجهه عنها كمن مسته حية.. أمسك قبضتيها بعنف صائحًا في لهجة أكثر عنفًا:
- ما هذا..؟ هل جننت؟
غمغمت كالمسحورة:
- أدهم.. قبلني.
- ماذا؟
- ضمني إليكَ وقبلني.
ضاقت عيناه وهو يتأملها مذهولًا.. كم يتمنى أن يصفعها الآن..؟! أن يلقي بها ركلًا خارج مكتبه.. خارج مؤسسته.. بل وخارج حياته كلها.. ولكن.. ما الذي يمنعه من أن يفعل؟!
لم يكن يومًا مسلوب الإرادة كما هو الآن.. 
كالمنوم مغناطيسيًا وجد نفسه بلا وعي يقترب ويلثم شفتيها في تردد قبل أن تزداد قبلاته عنفًا ويحكم ذراعيه حولها حتى ذابت بين يديه وتسربت بين عظامه.. 
أزاحها عنه أخيرًا وأطلق زفرة طويلة وكأنه يطردها من أعماقه التي تسللت كالهواء إليها بينما ظلت هي بلا حراك تستجمع شتاتها الضالة بلا جدوى.. جزء منها مفقود بين حنايا صدره.. هل سيطلق سراحه ليعود إليها أم سيقرر الاحتفاظ به إلى الأبد..؟ 
تنحنح طويلًا ولكنه لم يقل شيئًا.. هل فقد صوته أيضًا ضمن أشياء أخرى كثيرة سلبتها منه..؟ 
قالت بعد أن هدأت أنفاسها:
- أدهم.. أنا.......
هتف في لهجة دفاعية:
- اسمي أدهم بك.. حذار من أن تسقطي الألقاب بيننا مرة أخرى. 
تأملته في دهشة.. لماذا يفسد كل لحظة جميلة تجمعهما بمثل هذه القسوة والعدائية المفاجئة.. كيف استطاع أن يُقبلها بهذه اللهفة والرغبة لو لم تكن تعني له شيئًا..؟ جاهدت لتدافع عن كرامتها ولكن الكلمات خانتها.. هربت وتركتها وحدها معه.. تسمر خلف زجاج نافذته وكأنه تمثال من فولاذ لا قلب له ولا مشاعر.. وكأنه لم يكن نارًا صهرتها منذ قليل.. كيف يتبدل هكذا بين لحظة وأخرى؟!  
تنبهت لصوته:
- ما حدث بيننا الآن نزوة.. ولن تتكرر مرة أخرى. 
- هل أزعجتكَ لهذا الحد؟
- نعم.. لم أكن أتوقع أبدًا أن أفعل شيئًا كهذا مع موظفة عندي. 
جمعت الأوراق وهمت بمغادرة الغرفة.. كادت أن تتعثر من جديد وتسقط أرضًا لولا تماسكها في اللحظة الأخيرة.. لم تكن تنورتها الضيقة وحدها سببًا هذه المرة.. بل تلك الغشاوة التي أظلمت عينيها.. لم يسرع لنجدتها كما فعل من قبل رغم كونه استدار عندما سمع تأوهاتها.. اكتفى بالتطلع إليها بملامح جامدة لا حياة فيها قبل أن يستدير لينظر من النافذة مجددًا.. 
ألم تجد سوى هذا المتحجر لتلقي بقلبها بين صخوره؟ 
سافر في صباح اليوم التالي دون أن يمر بمكتبه.. أخبرها بالأمر أحد زملائها بعد محادثة هاتفية قصيرة أجراها معه.. لماذا لم يتحدث إليها مباشرة..؟  أليس من المفترض أنها مديرة مكتبه حتى تعود تهاني من إجازتها..؟  
كان واضحًا أنه يتجنبها بقدر ما تحاول هي التقرب منه.. لكنها لم تعتد الهزيمة من قبل.. لن تستسلم وتعلن انكسارها أمام لسانه الجارح الذي يقذف سهامه كالأعمى بلا هدف.. يكفي يقينها الذي لا يكذب بأنه يبادلها مشاعرها بأعنف منها.
أسبوع كامل كاد الشوق فيه أن يضنيها بينما اكتفى هو بتحية غير مبالية ألقاها عليهم ليعلن بها عن عودته.. دخل بعدها إلى مكتبه وكأنه لم يتغيب عن عينيها سبعة أيام ولياليها. 
دلفت إليه في لهفة ما بعدها لهفة.. ترى هل أعجبه الديكور الجديد الذي اختارته لمكتبه..؟  هل تروقه هذه الزهور الحمراء التي تصرخ بحبه في كل نظرة يمنًّ بها عليها..؟  هل يحلم بها تشاركه هذه الجنة التي جسَّدها فنان مبدع في "تابلو" رائع وضعته فوق الجدار المواجه لمكتبه..؟  النباتات العطرية التي أحضرتها من شرفة منزلها خصيصًا لأجله هل يعشق أريجها كما تعشقه..؟
هتفت في نشوة:
- ما رأيك في غرفة مكتبك الآن؟
أجابها دون أن ينظر إليها:
- لا بأس بها.. أين الفواتير؟
- أية فواتير؟
- التي اشتريتِ بها هذه الأشياء.
- لم أفكر في النقود.. كنتُ أحاول فقط إسعادك. 
- هذه المرة سأحاول تقدير ثمنها وأعيده إليك.. احرصي على إحضار الفواتير في المرة القادمة. 
انفرجت شفتاها في بلاهة.. ما هذا الجحود الذي يعاملها به..؟ هل هو نادم حقًا على تقبيله لها..؟
- أين تهاني..؟ بلغْني أنها عادت من إجازتها خلال سفري؟
- نعم.. عادت منذ يومين ولكن حالة والدتها تأخرت مرة أخرى فاضطرت إلى تجديد أجازتها حتى تتحسن.
- ووكلتك أنتِ أيضًا؟
صاحت ساخطة:
- إن كنتَ تملك بديلًا يمكنني التنحي. 
أجابها فى لامبالاة:
- لا بأس كلكم سواء عندي.
حدقت فيه بعيون تقطر المًا وإحباطًا من فيض قسوته.. ما الذي يعنيه بتلك العبارة.. هل يطالبها صراحة بالبعد عنه.. أيحاول نزع أحلامها من جذورها حتى لا تنبت ثانية..؟
- هل وصلت صفقة العطور الفرنسية؟
- نعم.. موجودة في المخازن منذ ثلاثة أيام.
- حسنًا.. اطلبي لي صافي تليفونيًا.
- من..؟
- صافي هانم الطحان.. رقم هاتفها مدون في الدفتر الذي تحتفظ به تهاني في درج مكتبها.
تطلعت إليه بقلق.. من هي صافى..؟ هل صافي هو اسمها كاملًا أم أنه يدللها؟ هل هي متزوجة أم لا..؟ ولماذا يريدها الآن..؟  ما نوع العلاقة التي تربطه بها؟ وإن لم تكن متزوجة.. فهل يفكر في الزواج منها؟
- لماذا تسمرتِ هكذا؟
تلعثمت قائلة:
- في أي شيء تريدها؟
- ماذا..؟  وما شأنكِ أنتِ؟
- أقصد.. بماذا تريدني أن أخبرها؟
- أخبريها فقط بأنني أريدها في مكتبي.. الآن.
الثقة التي يتحدث بها أقرب للغرور.. ألهذا الحد يثق بتلك "الصافى".. أم أنه يثق في نفسه ليس أكثر..؟  
تحركت تائهة لتنفذ ما طلبه منها عندما استوقفها صوته متهكمًا:
- ها قد بدأتِ تتأقلمين جيدًا مع التنورة الضيقة رغم عدم وجود فتحات بها.
غمغمت في حدة ملأته تسلية رغمًا عنه:
- يكفي أنني تأقلمت مع العمل في مكتبك لأتأقلم مع أي كارثة أخرى.

انتظروا تكملة الرواية أحبائي..


 لينك الحلقة السابعة 
 https://bit.ly/3j2JBs2