حينَ يَسقُطُ السُّورُ الأخلاقيُّ… مَن يَحمِي أبناءَنا؟

السبت 20 ديسمبر, 2025

بقلم . د. ليون سيوفي
باحث وكاتب سياسي

لم يَعُدِ الانحرافُ استثناءً، ولا الفلتانُ حادثةً عابرةً، بل باتَ ظاهرةً مُمنهَجةً ومحمِيّةً بالصمت، تُعرَضُ يوميًّا على شاشاتِ هواتفِنا، وتُسوَّقُ بوقاحةٍ على أنّها “حُرِّيّةٌ شخصيّة”، فيما هي في حقيقتها هدمٌ واعٍ للأخلاق، وتفكيكٌ مُتعمَّدٌ للقِيَم، وضربٌ مباشرٌ لأسسِ المجتمع.
إنّ ما نشهده اليوم على منصّاتِ التواصُلِ الاجتماعيّ ليس مجرّد محتوى هابط، بل اقتصادُ انحطاطٍ كامل، سوقٌ سوداء تُدار بالخوارزميّات، تُستَدرَجُ فيها العقولُ الغَضّة، ويُستَباحُ فيها الجسدُ، ويُكافَأُ الانحرافُ بالانتشار، بلا أيِّ رادعٍ أخلاقيّ أو خوفٍ اجتماعيّ. والأسوأ أنّ هذا السَّيلَ السّام يُقدَّمُ لأبنائنا في عمرِ التَّكوين، حيثُ الفضولُ يُستَغلّ، والبراءةُ تُغتال، والوعيُ يُعادُ تشكيلُه على مقاسِ الفوضى.
السؤالُ هنا لا يجوزُ دفنُه تحتَ الأعذار: هل الفقرُ وحدَه السبب؟
الفقرُ عاملٌ، نعم، لكنّه ليس الجريمة. الجريمةُ هي تحويلُ الفقرِ إلى أداة، واستثماره لدفعِ المجتمع نحو التطبيع مع الخطيئة، حتّى تُصبِحَ الرذيلةُ “محتوى”، والانحرافُ “خيارًا”، والعارُ مجرّدَ رأيٍ قديمٍ لا مكانَ له في “العصر الجديد”.
وهنا، لا يكفي أن نرمي السؤال: “أينَ الدولة؟”
فالدولةُ ليست غائبةً فقط، بل مشلولةٌ ومتواطئةٌ بالصمت. قوانينُ لا تُطبَّق، رقابةٌ شكلية، ومؤسّساتٌ تُلاحِقُ الصغائر وتغضُّ النظر عن الخرابِ الكبير. لكن، ورغم ذلك، تبقى الحقيقةُ الأقسى: حين تسقطُ الدولة، لا يجوزُ أن يسقطَ البيت.
إلى الأهل: هذا نداءُ إنذار، لا نصيحة.
انتبهوا. راقِبوا. اسألوا.
الهاتفُ الذي في يدِ ابنكم أو ابنتكم ليس جهازَ ترفيه، بل بوّابةُ اقتحامٍ مفتوحةٌ على عالمٍ بلا أخلاق ولا حدود. المراقبةُ ليست تعدّيًا، بل واجبُ حماية. الحوارُ ليس ضعفًا، بل خطُّ الدفاعِ الأخير. والسكوتُ ليس ثقةً، بل تفريطٌ بالأمانة.
راقِبوا ما يُشاهَد، افهموا ما يُحمَّل، واضبطوا الوقت قبل أن يضبطَ أولادَكم سوقٌ لا يرى فيهم سوى أرقامٍ ومشاهدات. فمَن لا يُربّي أبناءَه، ستُربّيهم المنصّات، ومَن لا يضعُ حدودًا، سيستيقظُ على جيلٍ بلا مرجعيّة.
ولم يَتَوَقَّفِ الفلتانُ عندَ الانحلالِ الأخلاقيّ، بل انزلقَ سريعًا إلى تطبيعِ الجريمةِ المُنظَّمة. تَرويجٌ للمُخدِّرات بواجهاتٍ ذكيّة، رموزٍ مُشفَّرة، وصفحاتٍ تعرفُ كيفَ تُغري وتُدمِّن. وإلى جانبها احتيالٌ ماليٌّ واسع، عملاتٌ مُزوَّرة، “استثماراتٌ وهميّة”، وسرقةٌ منظَّمة تُدمِّرُ ما تبقّى من ثقةٍ وأمان.
ويُضافُ إلى ذلك مشهدٌ أكثرُ فجاجةً: ملايينُ الحساباتِ لنساءٍ وفتياتٍ يَطلبنَ الدعمَ المادّيَّ العلنيّ عبر منصّاتٍ كـ“تيك توك”، في تسوُّلٍ رقميٍّ مُمَنهَج، يُعادُ تسويقُه كـ“محتوى”. وصفحاتٌ أخرى تُعلِنُ بلا أيِّ خجلٍ عن خدماتٍ جنسيّة، بما فيها عروضٌ صريحةٌ من مثليّين، تُفرَضُ على المجتمع، وتُطبَّعُ أمامَ أعينِ القاصرين، وكأنّ الأمرَ طبيعيٌّ أو عاديّ.
الأخطرُ أنّ كلَّ هذا يُقدَّمُ في فضاءٍ واحد، هاتفٌ صغير، في يدِ طفلٍ أو مراهق، بلا رقابةٍ فعليّة، وبلا وعيٍ بحجمِ السُّمومِ التي تُضَخّ في وعيِه يومًا بعد يوم. نحنُ لسنا أمامَ محتوى، بل أمامَ منظومةِ إفسادٍ شاملة: أخلاقٌ تُدمَّر، عقولٌ تُخدَّر، وجريمةٌ تُسوَّق كنمطِ حياة.
إنّ السكوتَ عن هذا الانحدار ليس حيادًا، بل مشاركةٌ غيرُ مباشرة. والمجتمعُ الذي يختارُ الصمت، سيُحاسَبُ على النتائج.
ما نعيشه اليوم ليس مسألةَ أخلاقٍ فرديّة، بل فشلٌ سياسيٌّ وأخلاقيٌّ للدولةِ ومنظومتِها. دولةٌ لا تحمي أبناءَها في الفضاءِ الرقميّ، ولا تضبطُ منصّاتِ الفساد، ولا تفرضُ قوانينَها، هي دولةٌ تتركُ مجتمعَها يُستباح.
إنّ حمايةَ الأجيال قرارٌ سياسيّ قبل أن يكون وعظًا اجتماعيًّا. إمّا دولةٌ تتحمّل مسؤوليّتَها، وتفرضُ السيادةَ الأخلاقيّة كما تفرضُ السيادةَ الأمنيّة، وإمّا استمرارُ الانهيار حتّى آخرِ بيت.
هذه ليست مبالغة، بل إنذارٌ أخير.
إمّا مواجهةٌ شاملة اليوم، أو غدٌ بلا هوية، بلا قيم، وبلا مستقبل..