«آل شابو»EL CHAPO … القضيّةُ المُختلَقةُ ووطنُ المافيّات
الأربعاء 17 ديسمبر, 2025بقلم: د. ليون سيوفي
باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ
ضحكوا عليكم حين أوهموكم بأنّ لديكم «قضيّةً» يجبُ الدِّفاعُ عنها، وبأنّ الدَّمَ يُصبِحُ شرفًا متى رُفِعَ الشِّعارُ المناسب. لم تكن القضيّةُ يومًا سوى غطاءٍ مُتقَنٍ لمنظومةٍ مافيويّةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ، عرفت كيف تُديرُ الحروبَ كما تُدارُ الصفقات، وكيف تُشعِلُ النّارَ باسم المبادئ ثمّ تجلسُ فوق رمادها لتتقاسمَ الغنائم.
من يُشاهِدُ مسلسل «آل شابو» يُدرِكُ تمامًا عمّا أتحدّث، ويُقارِنُ بينه وبين من أطلقوا على أنفسهم زعماءَ الوطن. لم يكن مسلسلًا عاديًّا أو خياليًّا، بل تجرّأ على قولِ الحقيقةِ العارية، وليعلَموا أنّ الميليشياتِ لا تحكمُ بدافعِ القيم، بل بمنطقِ السّوق. تتقاتلُ حين تتعارضُ المصالح، وتتصالحُ فورًا عندما تنضجُ الصّفقة. العداواتُ دمويّةٌ في العلن، لكنّها هشّةٌ في العمق، لأنّ المالَ والنّفوذَ أقوى من أيّ خطابٍ تعبويّ.
في مسلسل حياة «آل شابو»، كما في واقعنا، تُدارُ البلادُ بعقليّةِ العصابة. تُعقَدُ المصالحاتُ في الغُرَفِ المُغلَقة، وتُلتقَطُ الصُّوَرُ أمام الكاميرات باسم «السِّلم الأهليّ» و«الإنقاذ»، بينما تُدفَعُ الفواتيرُ في الشوارع. الأزلامُ الذين صدّقوا الروايةَ يُقتَلون بلا معنى، والمدنيّون يُهجَّرون بلا ذنب، ومؤسّساتُ الدّولة تُسحَقُ بين فكَّيِ السِّلاح والفساد. حتّى رجالاتُ الدّولة، من عسكريّين وقضاة وموظّفين، يُترَكون بلا حماية، يُستَخدَمون عند الحاجة ويُرمَون عند أوّل تسوية.
الحربُ الأهليّةُ لم تكن بطولةً، بل تجارة. الدَّمُ لم يكن تضحيةً، بل أداةَ ضغط. والزعيمُ لم يحزن على القتلى، بل يُعيدُ حساباتِه ليُحسِّنَ شروطَه على طاولةِ التفاوض. تُستحضَرُ القضايا الكبرى لتغطيةِ صراعاتٍ صغيرةٍ على الحصص، وتُرفَعُ الشِّعاراتُ لتخديرِ النّاس، فيما الوطنُ يتحوّلُ رهينةً دائمة.
الأخطرُ أنّ هذه المنظومةَ لا تعيشُ بالسِّلاح وحده، ولا تحت غطاءِ أحزاب، بل بالكذبِ المنهجيّ. تُقنِعُ النّاسَ بأنّ هناك مؤامرةً على الوطن، وبأنّ القانونَ مؤامرة، وبأنّ السُّؤالَ خيانة. تُربّي أجيالًا على الخوف والطاعة، ثمّ تدفعُهم وقودًا عند أوّل مفترق. وحين يحينُ وقتُ المصالحة، يُمسَحُ الدَّمُ عن الطاولات، ويُطلَبُ من الضحايا الصَّمتُ باسم «المصلحةِ العُليا».
«آل شابو» لا يحكي عن زمنٍ مضى، بل عن حاضرٍ مستمرّ. عن بلدٍ لم يخرج من الحرب، بل بدّل أدواتِها. عن مافياتٍ تلبسُ ثيابَ السّياسة، تستعملُ القضيّةَ ستارًا، وتتقاسمُ الدّولة حين تضعف، وتهاجمُها حين تحاولُ الوقوف.
القضيّةُ الحقيقيّةُ ليست ما قالوه لكم، بل ما حُرِمتم منه: دولةٌ تحكم، وقانونٌ يُحاسِب، وكرامةُ إنسانٍ لا يُستَخدَمُ وقودًا في اقتتالِ المافيات، ولا ورقةً في مصافحاتِها.
وفي الخِتام، أنصحُكم بمشاهدةِ مسلسل «آل شابو»، لا للتسلية، بل لتعرِفوا حقيقةَ ما يدورُ وراءَ الكواليس، وكيف تُدارُ الصّفقاتُ وتُصنَعُ الحروبُ على أيدي مافياتِ الوطن، فيما يُترَكُ الشّعبُ دائمًا وحده لدفعِ الثَّمن..
سؤال «مَن هو الشابو اللبناني؟» لا يُقصد به شخصًا واحدًا بعينه، ولا اسمًا يمكن وضعه على لائحة الاتّهام. «الشابو» في السياق اللبناني هو نموذج، لا فرد؛ هو عقلٌ حاكم، لا وجهٌ واحد.
إنّه ذاك الزعيم الذي يُمسك بالخيوط من الخلف، يحرّك الشارع عند الحاجة، ويُطفئه عند نضوج الصفقة. يظهر خصمًا شرسًا في العلن، وشريكًا هادئًا في الكواليس. يرفع الخطاب السياديّ أو المقاوم أو الطائفيّ بحسب السوق، ثم يخلعه فور دخول غرفة التفاوض.
«الشابو» اللبناني هو
من يتاجر بالخوف ليحكم.
من يقدّس الدم في الخطاب ويُقايض به في السياسة.
من يرسل الأزلام إلى المواجهة ثم يجلس آمنًا ليحصي المكاسب.
من يهتف ضدّ الدولة علنًا ويتقاسمها سرًّا.
هو ذاك الذي لا يهمّه إن تغيّرت الشعارات، أو تبدّلت التحالفات، أو سقطت المدن، ما دام النفوذ محفوظًا والحصّة مضمونة. قد يلبس بدلة سياسيّة، أو عباءة عقائديّة، أو قناعًا إصلاحيًّا، لكن الجوهر واحد: مافيا تتقن لغة القضيّة لتُخفي منطق الصفقة.
لذلك، السؤال الأدقّ ليسومن هو الشابو؟
بل كم «شابو» حكم لبنان، وما زال، بأسماء مختلفة ووجوه متبدّلة، والعقلية نفسها؟
وهنا مكمن الخطر الحقيقيّ، حين يصبح «الشابو» ثقافةً سياسيّةً عامّة، لا استثناءً، وحين يُختَزَل الوطن كلّه في لعبة ظلّ، يدفع ثمنها شعبٌ يُقاتِل ويُصفِّق، فيما القرار يُتَّخَذ دائمًا خلف الستار....