رِحلةُ التَّطبيع… قادةٌ يَبيعون الوطن والشَّعبُ يَدفعُ الثَّمَن

الأحد 14 ديسمبر, 2025

بقلم د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ، ومرشّحٌ سابقٌ لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة

إنَّ التَّطبيعَ لم يَعُد خياراً مطروحاً على طاولةِ السّياسة، بل أصبح مَشروعاً يُدفَعُ إليه بعضُ القادةِ دَفعاً، ويُدفَعون هم إليه بدافعٍ آخر… مَصلحةٌ خاصّة، أو مَكسبٌ سياسيّ، أو وعدٌ خارجيّ لا علاقة له بمَصلحةِ الشَّعب. ومنذ احتلال فلسطين عام ١٩٤٨ وامتداد العُدوان إلى لبنان عام ١٩٧٨ و١٩٨٢، لم يأتِ هذا الكيانُ إلّا بالخَطرِ والخراب، ومع ذلك نرى مَن يُهَرولون إلى التَّطبيع وكأنّهم ينتظرون جائزةً لا تنتظر إلّا توقيعهم.
إنَّ السُّؤال الَّذي يَطرحُ نفسه بِقَسوة هو:
ما الَّذي يَدفعُ بعضَ القادةِ إلى هذا المَسار؟
هل هو اقتناعٌ سياسيّ؟
أم هو ثَمَنٌ يُدفَعُ لهم ليُغطّوا مَشروعاً لا يملِك أيُّ لبنانيٍّ حُرٍّ تبريرَه؟
وهل يُعقَل أن يتحوّل مُستقبلُ الوطن إلى ورقةِ مُساوَمةٍ في يد أفرادٍ يبحثون عن دَورٍ أو كُرسيٍّ أو حمايةٍ خارجيّةٍ تُعَوِّضُ فَشلهم الدّاخليّ؟
إنَّ خَطيئَةَ هؤلاء القادة أنّهم يُقدّمون التَّطبيعَ على أنّه “مَمَرٌّ إلزاميّ”، بينما هو في الحقيقة أكبرُ تَنازُلٍ تُقدّمه دولةٌ لِنَقيضها؛ تَنازُلٌ في الوَعي قبل السّياسة، وفي الكَرامة قبل المُصالحات. وما يُروَّج له من وعودٍ اقتصاديّةٍ أو شَراكاتٍ استثماريّةٍ ليس إلّا غِطاءً لأخطر تَفكُّكٍ يُصيبُ السّيادةَ اللبنانيّة منذ عقود.
وتكمُن الخُطورةُ في أنَّ التَّطبيع، حين يصدر عن قادةٍ يَعرفون تماماً تاريخَ هذا العدوّ، لا يُفسَّر إلّا على أنّه تَخَلٍّ مُتعمَّدٌ عن الثَّوابت، أو خُضوعٌ لِضغطٍ خارجيّ، أو سَعيٌ لِمصالحِ شَخصيّة تأتي على حسابِ شَعبٍ يَدفعُ الثَّمَن وحده. إنّه مَسارٌ يَفتحُ الباب أمام هَدمِ ما تَبقّى من المَناعة الوطنيّة، ويُحوِّلُ القرارَ السياسيّ إلى قرارٍ تابِعٍ لا يَملِك القُدرة على حمايةِ أرضه ولا كَرامةِ ناسه.
وإنَّ مَن يُروّجون لهذا المَسار، من قادةٍ أو نُخَبٍ أو مُتسلّقين في المَشهد، يَعرفون أنّ إسرائيل لم تُقدّم منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً إلّا الاحتلالَ والاغتيالَ وزَعزعةَ الاستقرار. فكيف يَخرجون اليوم ليقولوا إنّها أصبحت شَريكاً في السّلام؟ وبأيِّ مَنطِقٍ يريدون لشَعبٍ مُنهَك أن يُصدّق أنَّ التَّسليمَ للعُدوان سيُنتِجُ ازدهاراً؟ وبأيِّ وَجهٍ يَطلبون من المواطن أن يقبل بما لم يَقبله التاريخ ولا الضمير ولا الكَرامة؟
إنَّ التَّطبيعَ في هذه المرحلة ليس خياراً سياسيّاً يُناقَش، بل امتحانٌ أخلاقيّ يَكشِفُ مَن هُم مع وطنهم ومَن هُم مع مصالحهم. وما يفعله بعضُ القادة اليوم ليس إلّا وَضعَ توقيعٍ على ورقةٍ تُفَرِّطُ بالموقعِ اللبنانيّ، وتُعيد رَسمَ لبنان على قياس إسرائيل، وتَفتحُ الباب لِمَن يريد أن يَحكمَ الشَّعب من الخارج.
وهنا تَبرزُ الحقيقة الأخطر:
ما يَجري اليوم ليس خطواتٍ عابِرة، بل هِندسةٌ جديدةٌ لِخَريطةِ بِلادِ الشّام.
لبنان، سوريا، الأردن، العراق… جَميعُها تُدفَعُ نحو إعادةِ تَوزيعِ الأدوار، ورَسمِ الحُدودِ السياسيّة والاقتصاديّة وفق حاجاتِ إسرائيل ومَشاريعها في المنطقة. فالتَّطبيعُ ليس قراراً مُنفَصلاً في دولةٍ واحدة، بل جُزءٌ من مَشهدٍ أوسعَ يُعاد تَشكيلُه لِفَرض واقعٍ جديدٍ تتحكّمُ فيه تلّ أبيب بمفاتيحِ الاقتصاد والأمن والسياسة، بينما يُجرَّدُ الشُّعوب من قُدرتها على الاعتراض أو المقاومة.
إنّه مَشروعٌ يتجاوز حدودَ لبنان؛ إنّه مُحاولةٌ لإعادةِ ترتيبِ المَشرِق كُلّه بما يَنسجم مع مصالح القوى التي تريد شرقاً مُطيعاً، مَنزوعَ الإرادة، مُفكَّكَ الهويّة.
والشَّعبُ، مهما طال الصَّمت، يَعرفُ الحقيقة…
أنَّ التَّطبيعَ مَشروعُ مَن قَبَضوا الثَّمَن، لا مشروعُ مَن يَدفعون الثَّمَن.
ومَن يُضحّي بسيادةِ بَلدهِ من أجل مَوقعٍ أو حمايةٍ أو مَكسبٍ شَخصيّ، لا يَكتبُ صفحةً في السّياسة، بل يَكتبُ صفحةً في التّاريخ الأسود...