سد "نيريري ".. ورسائل القاهرة الحضارية!!
في وقت قياسي وانطلاقا من دورها المحوري في القارة السمراء أسهمت مصر في إنجاز حضاري جديد ،وفي تحقيق حلم الشعب التنزاني المعطل من خلال تدشين سد "جوليوس نيريري" الضخم "ستيجلر جورج سابقا"،الذي يحمل معه بشريات الأمل في التنمية والإعمار.
وتتجاوز الأهمية الاستراتيجية للسد كل الحدود،وتسطر القاهرة رسائل مهمة في اتجاهات مختلفة لمن يهمه الأمر،علي المستوى القاري والأممي والمحلي أيضا.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه،فقد بني المصريون من قبل سد جبل الأولياء عام 1937م على نهر النيل الأبيض بالسودان، على بعد 44 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم ،ويبلغ ارتفاعه 22 م، وحجم الطاقة التخزينية 3,500 مليار متر مكعب،وطوله 5 كيلومتروطول البحيرة 600 كيلومتر.
وظل تحت الإشراف الفني والإداري للحكومة المصرية وفق اتفاقية لحفظ حقها في مياه النيل دون أي تدخل من الحكومات الوطنية بعد استقلال السودان، وظل الخزان يمثل خط إمداد ثاني للمياه في مصر، إلى أن زالت أهميته بعد إنشاء السد العالي ،وتم تسليمه إلى حكومة السودان في عام 1977م.
ولاريب أن مشروع سد جوليوس نيريري الجديد مقدمة فاعلة لتطوير دور تنزانيا في تعزيز الأمن والاستقرار بالقارة السمراء ، وتطوير ممرات التجارة العابرة للحدود ،وتوثيق وودعم علاقات الصداقة بين دول القارة.
كما تفتح أفق التعاون مع الدول المجاوره لتنزانيا مثل كينيا وأوغندا وبروندي وزامبيا وموزمبيق والكونغو الديمقراطية ومالاوي وغيرها.
وفي احتفالية تاريخية مبهجة بدأ التخزين الأول لخزان سد جوليوس نيريرى مؤخرا ، تتويجا لمجهودات الايادي المصرية من خلال شركتي المقاولون العرب والسويدى للكابلات اللتين فازتا بامتياز بناء سد نيريرى علي نهر
على نهر روفيجى، أكبر أنهار تنزانيا فى ديسمبر 2018 بتكلفة تقترب من الثلاث مليارات دولار.
وتم وضع حجر الأساس فى 27 يوليو عام 2019، واستغرقت مدة العمل 3 سنوات بدأت بتحويل مجرى النهر فى 18 نوفمبر 2020 ، وبعد مرور عامين تم خلالهما الانتهاء من إنشاء الجسم الرئيسي للسد.
يتكون المشروع من سد رئيسى خرسانى بارتفاع 131 م، وطول 1025م، سعتة التخزينية في حدود 34 مليار م3، بالإضافة إلى 4 سدود مكملة (Saddle dam) لغلق الأودية المجاورة، ويبلغ ايراد النهر السنوى 21 مليار م3.
والهدف الأساسي من السد الحماية من الفيضان وإنشاء عدد من المشروعات التنموية والزراعية ،وتوليد ما يقرب من 2115 ميجاوات كهرباء "تقريبا مثل السد العالى" من خلال 9 توربينات،ويبلغ عدد العاملين بالمشروع ومحطة جوليوس نيريري الكهرومائية نحو 12 ألف عامل.
ويعد مشروع سد "جوليوس نيريري" من أهم المشروعات التنموية التي يتم تنفيذها في القارة الأفريقية ،تجسيدا لقدرات وإمكانات الشركات المصرية في تنفيذ مشروعات البنية التحتية الكبرى في عدد من الدول الأفريقية، ونموذجاً يحتذى به للتعاون الإقليمي البناء بين الدول الإفريقية الشقيقة لدعم جهود التنمية وتحقيق مصالح شعوبها.
ويمثل المشروع أهمية كبيرة للشعب التنزاني، من خلال توليد الطاقة والسيطرة على فيضان نهر روفيجى، بالإضافة إلى تنظيم استدامة التدفقات المائية اللازمة لزراعة المناطق المحيطة به وممارسة أنشطة الصيد النهري وغيرها.
وقد شاركت مصر في الإحتفالية التاريخية لبدء التخزين بوفد رفيع المستوي برئاسة وزير الخارجية سامح شكري وتبقي رسائل القاهرة الحضارية والدروس الصامتة نموذجا للتميز والحكمة والعلاقات الدولية المتحضرة.
أتصور أن الرسالة الأولي مفادها أن بناة السد العالي ،قادرين بالفعل لا بالقول علي تدشين مشروعات تنموية عملاقة تفتح آفاق التعاون بين مختلف دول القارة،واستعادة ريادتها ومكانتها الإفريقية.
كما أن المشاركة في إنجاز هذا المشروع العملاق رسالة لأديس أبابا التي استمرأت الصلف والتعنت وتعمدت عرقلة المفاوضات والتوصل لإتفاق ملزم يتضمن توقيتات محددة لمواعيد ملء وتشغيل سد النهضة دون الإضرار بدولتي المصب،وخاصة في سنوات الجفاف، ومفادها أن أديس أبابا جانبها الصواب وخانتها التقديرات والحسابات السياسية ،فمصر تستطيع إقامة مشروعات استراتيجية وشراكات عملاقة قد تمهد لتحقيق حلم الربط الكهربائي بين دول القارة وتفعيل اتفاقيات التعاون لتطوير إنتاج الطاقة النظيفة.
وفي تصوري أن خطيئة أديس أبابا الكبري تجسد في إصرارها المريب علي التعنت واستمراء الصلف والكبر ،ورفض التعاون مع دول الجوار ،وعقد شراكات تنموية مستدامة فهي الرابح والمستفيد الأول ،كما غاب عنها حكمة المواءمات السياسية واستيعاب دروس الأزمات الدولية والإقليمية!.
وتبقي هذه الرسالة هي الأكثر أهمية،فبعد سنوات مضنية من المفاوضات ترفض أديس الاستماع لصوت العقل والحكمة والعودة إلى مائدة المباحثات التي تحقق مصالح جميع الأطراف وتفتح الطريق لإقامة شراكات تنموية مع دول الجوار تصب في نهاية المطاف في بوتقة مصالحها الخاصة.
كما كشف تداعيات الأحداث وتطوراتها عن النوايا الخبيثة لإثيوبيا ورغبتها في استغلال وتوظيف ملف سد النهضة في الضغط علي مصر والسودان ،والتمهيد لبيع المياه والكهرباء لكن لا يحيق المكر السيء إلا بأهله،فكل المعطيات تؤكد فشلها في خطط الملء والتشغيل وتعثر مشروعات إنتاج الكهرباء نتيجة الأعطال المستمرة بتوربينات سد النهضة.
ويبقي الموقف الهزيل للإتحاد الإفريقي تجاه قضية سد علامة سوداء في جبينه،وخاصة بعد دعوة مجلس الأمن أكثر من مره لاستئناف المفاوضات تحت مظلته،ولكن شيئا لم يحدث!!
واعتقد أن إقامة هذا المشروع في توقيت قياسي بأياد وخبرات مصرية عريقة يفتح من جديد التفكير جليا في ربط نهر النيل بنهر الكونغو،والاستفادة من عشرات المليارات من المياه العذبة التي تذهب هباء في المحيط الأطلسي.
وهو أيضا رسالة طمأنة لكل المصريين الشرفاء من أبناء الوطن أن أرض الكنانة لن تفرط في أي قطرة من حصتها التاريخية من مياه النيل ، وتمتلك أوراق رادعة لا حدود لها، لكنها تحترم القوانين والأعراف الدولية وسيادة الدول ،وتنتهج سياسة النفس الطويل في التفاوض انطلاقا من دورها المحوري،ومراعاة للظروف الدولية والقارية التي لا تحتمل إشعال صراعات جديدة ، بلا وعي أو تعقل !.
كما تمتلك القاهرة جملة من الأساليب والسياسات العملية الفعالة ، ولديها العديد من السيناريوهات الاستراتيجيات السلمية الداعمة لفكرة الشراكة والتعاون والبناء والتنمية، لا الدمار والصدام !.