دكتورة إيمان عادل أنور تكتب... الكرماء يُكرِمون اليتيم
في عالم استشرت فيه أحاسيس التوجس والخوف على المستقبل، بدأت تطأ ربوعه النزعة الفردية Individualism بصورة شرسة، لا عهد لنا بها ذي قبل؛ وهي نزعة ستؤدي يوما ما إلى صورة من صور التوحش، لا تأبه بالضعيف إلا لماما، فأصحاب هذه النزعة يعارضون أي تدخل خارجي على مصلحة الفرد من قبل المجتمع أو المؤسسات، الرسمية منها وغير الرسمية؛ ومثل هذه الصورة تمقتها الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص، الذي تسود فيه النزعة الجماعية Collectivism، والتي بدونها لن يصلح أمرالفرد داخل مجتمعه، بمعنى آخر أن النزعتين من وجهة النظر الإسلامية مترابطتان، وإن كانت للجماعية القيادة.
أين أبي؟ هكذا سألني طفل في الخامسة من عمره، وذلك في إحدى زياراتي لدار من دور الأيتام؛ كان يرتدي ثياباً رثة، بينما كانت عيناه ترقبان في حزن عميق إحدى مشرفات الدار التي كانت تصيح في الأطفال اليتامى بصورة مفزعة ؛ نظرت برهةً في عيني الطفل، ثم أجبته: "أبوك ياولدي في السماء"، حينئذ أجهش الطفل بالبكاء، فتملكني ألم نفسي شديد ولم أستطع البقاء في الدار، وفي طريقي كانت تتردد في أذني الآية لكريمة "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ"، والقهر قهران، مادي ومعنوي، وتداعي حينئذ إلى خاطري مشهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول "أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وأشار بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى"، وقد ورد ذكر العناية باليتيم في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرةً في مواضع مختلفةٍ، ليتأكد بذلك الجانب الأخلاقي العظيم في التعامل مع هذه الفئة من البشر، وهو جانب نجده أيضاً في مواضع متفرقة في الكتاب المقدس، فمما ذُكِر فيه أن ظلم اليتيم ذنبً عظيم ، كما نصادف فيه أيضا افتخار أيوب بأنه أستطاع إنقاذ يتيم.
تتنوع حقوق اليتيم في الإسلام ما بين الإحسان إليه والاهتمام به اجتماعياً والإنفاق عليه ، لذلك نجد منظمة كمنظمة الإغاثة الإسلامية - التي تأسست عام 1996 في مدينة كولونيا الألمانية- قد أولت اهتماما خاصا بمسألة اليتيم وكفالته، فأطلقت حملات خيرية منذ عام 2013 تحت شعار "طعام للأيتام"، تقوم من خلالها بتقديم العون لعددٍ لا بأس به من الأيتام في عشرين بلد حول العالم.
إن ترابط النزعتين الجماعية والفردية في الإسلام يعني وبوضوح أن مسئولية رعاية الأيتام لا تقع فقط على المؤسسات الرسمية- التي تمثلها في بلادنا وزارة التضامن الإجتماعي- بل أيضا تقع على الأفراد والجمعيات وكذلك الجامعات؛ وخاصة أنه يوجد في مصر عدد كبير ممن فقدوا ذويهم (قرابة مليونين ونصف المليون طفل، بحسب مصادر وزارة التضامن) يسكنون دور الأيتام بنوعيها العام والخاص، موزعة فى محافظات مصر.
إن من أهم العوامل التي لاحظتها -التي تزيد من الإحساس باليُتْم - يكمن في عدم وجود كوادر مؤهلة لتوجيه العامل النفسي لليتيم، بصورة تجعله فرداً ايجابيا يندمج في مجتمعه، وتنأى به عن الوقوع في براثن العُقُد النفسية، بعد تعرّضه فى بداية حياته للحرمان من الأم أو الأب أو كليهما؛ وهو أمر يؤدى به إلى إصابته بحالات من الاكتئاب، وإلى ضعف علاقته الاجتماعية مع الآخريـن؛ ولذلك فإني أرى من موقعي في جامعة الأزهر أن إعداد كوادر وظيفية في هذا الشأن بات أمراً ضرورياً لا غنى عنه، وذلك من خلال عقد دورات تأهلية لبعض خريجي الجامعات المصرية، كي يقوموا مستقبلاً بدور بنّاء في الذود عن هذه الفئة؛ وكلي أمل أن يقوم رجال الأعمال وأثرياء بلادنا الرحماء بالإنفاق على هذه الدورات، كما أهفو أيضا أن يشمر المتخصصون من أساتذة الجامعات عن سواعدهم لتكريم هذه الفئة للمعاونة في تحقيق هذا الهدف المرجو، فالكرماء أياً كان موقعهم يُكرِمون اليتيم!