رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة الثالثة عشر
الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.
حلقة ١٣
تناول أدهم سماعة تليفونه الخاص.. قليلون هم من يعرفون هذا الرقم ليتحدثوا إليه مباشرة دون المرور بالسكرتارية.. ما إن تعرف إلى صوت محدثه على الطرف الآخر حتى أغمض عينيه في عنف ممزوج ببعض الألم.. مازن.. يا الله.. كيف أمكنه أن يتناسى وجوده لهذه الدرجة؟!
كان قد تقرب كثيرًا من إلهام بعد زيارته إلى منزلهم.. وعدته بأن تكف عن جنونها الذي يزعجه.. سوف تتغير من أجله كما قالت.. قدمت له أمس بعض الشطائر وألحت عليه كي يتذوقها.. صنعتها بنفسها.. سوف تطلب من والدتها أن تعلمها الطهو حتى تطهو لزوجها مستقبلًا.. هي أيضًا لا تفضل وجود الخدم بصفة مستمرة.. سوف تكتفي بمساعدتهم لها في تنظيف منزلها من حين لآخر.. لا تحب أن ينتهك أحد خصوصيتها.. تريد أن تكون وحدها مع حبيبها الذي اختارته زوجًا لها.. كان يعلم أنها تقصده هو ولم يدهشه ذلك.. بل ما أدهشه هو ترحيبه بحديثها حد السعادة.
- أدهم اشتقت إليكَ كثيرًا.. كيف حالك وكيف حال أعمالك العزيزة..؟
- بخير.. أنا أيضًا أفتقدك.
- سوف أكون في مصر قريبًا.
- لماذا؟
- ألم تقل أنكَ تفتقدني أنتَ أيضًا؟
- بالطبع.
- لماذا لا تبدو مُرحبًا بقدومي..؟! على أية حال سوف آتي لرؤية حبيبتي.
- حبيبتك؟
- أدهم.. ماذا بك؟ هل نسيتَ إلهام التي حدثتك بشأنها؟ ماذا فعلتَ بها..؟ حذار أن تكون قاسيًا معها.
- اطمئن.. لم آكلها بعد.. هل استدعيها لتحدثك؟
- كلا.. كلا.. أريد أن أفاجئها برؤيتي.. آهٍ يا أدهم.. لو تدري كمّ أشواقي إليها؟! أنا أحسدك لأنكَ تراها وتسمع صوتها كل يوم.
لم يعد يسمع شيئًا.. همهماته المقتضبة التي انبعثت تلقائيًا لمجرد إظهار مشاركته في الحديث.. يبدو أنها أزعجت مازن وأشعرته بالملل فتعجل إنهاء المحادثة.
مازن يأخذ الأمر بعين الاعتبار إذًا.. أتراه حقًا يعشقها..؟ أمازال يفكر فيها..؟ حديثه عنها يطن في أذنيه الآن.. أخبره يومها بأنه سيجن بها هو أيضًا ما إن يراها ولكنه دعاه حينها أن يتذكر بأنه هو من عشقها أولًا..
أتراه كان يتنبأ بالأمر ويخشاه؟!
دفن وجهه بين كفيه مهمومًا.. ولكن لماذا الهم وهو لم يعشقها بعد..؟
حمدًا لله بأن مازن قد اتصل به في الوقت المناسب كي لا يتورط في حبائلها أكثر من هذا.. الصداع الذي يشعر به الآن أمرًا طبيعيًا لا داعي لتضخيمه..
خفقات قلبه المضطربة.. أفكاره المشوشة.. استكانة الأموات التي تسري في كل أعضائه.. عيناه التي أظلمت فجأة.. كلها أعراض أصابته بسبب الغيبوبة التي استفاق منها للتو ليس إلا...
انتفض عندما لمست كفيه بنعومة لتبعدهما عن وجهه.. حدق فيها طويلًا قبل أن يهتف ساخطًا وهو يزيحها بعنف لتبتعد عنه:
- كم مرة يجب أن أخبرك بألا تتخطي حدودك معي؟
- أدهم...!
- حذار أن تنطقي اسمى مجردًا مرة أخرى.
- ماذا حدث لك..؟ لم تكن هكذا منذ قليل؟!
- اخرجي من هنا.. ولا تعاودي الدخول إلى مكتبي قبل أن تطرقي الباب أولًا.. أرجو أن يكون كلامي واضحًا يا آنسة.
تراجعت وهي تطلع إليه في مزيج من البلاهة والصدمة والإحباط.. كلما ظنت بأنها اقتربت خطوة منه.. أزاحها خطوات إلى الخلف.. لولا يقينها بكونه يبادلها مشاعرها بالمثل.. ما تحملت استبداده وقسوته لحظة واحدة..
ولكن من أين لها بهذا اليقين؟
ربما كانت مجنونة وطائشة كما وصفها كثيرًا.. ربما هو لا يشعر بها من الأساس وإنما كل ما تحسه دربًا من الوهم.
حذرتها والدتها منه ومن التقرب إليه أكثر.. لامبالاته التي تراها هي عزة ورصانة.. تراها والدتها إهمال وجفاء منه نحوها.. هل كانت والدتها محقة في انزعاجها؟ هل يجب أن تكف عن التودد إليه والاقتراب من حصونه..؟ هل يجب أن تبتعد عنه وعن عقده للأبد هذه المرة؟
كانت منكبة على مراجعة بعض الملفات.. منذ يومين وأدهم مهمومًا بائسًا بلا مبرر.. الأرباح الطائلة التي حققتها الشركة مؤخرًا لم تسعده كما كانت تتوقع.. وصلت شحنة مستحضرات التجميل ولم يكن الترويج لها صعبًا كما تخيل.. الدعاية التي قامت بها مجلة نساء فاتنات وغيرها من مجلات الموضة كان لها أثرًا بالغًا في الانتشار المبكر للماركة الفاخرة التي صارت مؤسسته وكيلًا معتمدًا لها.. ولكنه مازال حزينًا ويحزنها معه بلا سبب يجعلها تبحث عن حل له.
ربما كان العمل خير دواء لقلبها العليل.. إن كان لا يراها كما تريده أن يراها.. فـ على الأقل سيرى البراعة في عملها لأنه يقدس العمل.
شهقت مصدومة عندما رفعها أحدهم فجأة لتنهض واقفة.. حدقت غاضبة في الرجل الواقف أمامها وما لبثت ملامحها أن هدأت وهي تتطلع لوجهه المتهلل فرحًا قبل أن يحملها مازن بين ذراعيه ويطوحها في الهواء غير عابئ بنظرات رفاقها نحوه..
ولمَ يهتم وهى ستصبح زوجته بعد أيام قليلة؟!
تمالكت انفعالاتها أخيرًا وابتسمت محاولة التحرر من ذراعيه في نفس اللحظة التي خرج فيها أدهم من مكتبه.. أدهشها ذلك المزيج العجيب في نظراته من العتاب والغضب واللامبالاة.. فيها بعض الحزن أيضًا.. ولكنه لم يعترض.
لم يرمقها بتلك النظرة التي تشعرها بأنها ملكًا خالصًا له.. اكتفى فقط بالاقتراب من مازن وضمه إليه.. راح يربت فوق ظهره طويلًا قبل أن يجذبه إلى مكتبه.. لم يمض وقت طويل حتى استدعاها هي الأخرى.
- أمرك أدهم بك.
ابتسم مازن مستنكراً لتلك الطريقة الرسمية التي تتحدث بها بينما قال أدهم في عبوس:
- سلمي عهدتكِ لمن تثقين بأنه الأجدر بين زملائك.. أنتِ في إجازة مفتوحة منذ الآن.
أصابها وجوم مفاجئ وظلت صامتة تبادل نظراتها بينهما.. مازن بابتسامته الواسعة التي تسمرت فوق وجهها في عشق.. وأدهم الذي أطلق عبارته وانهمك بعدها في ترتيب بعض ملفاته لامباليًا بها.
هذا المستبد.. ألا تعني له شيئًا أبدًا بعد كل ما حدث بينهما..؟!
أدهشها ذلك الكم الذي أصابها من اليأس والحزن.. على العكس.. كان يجب أن تكون سعيدة الآن.. ألم تحصل على حريتها التى طالبته بها مرارًا؟
ابتسمت في بلاهة دون أن تتحرك من مكانها حين نهض مازن وأحاط كتفها بذراعه في تملك قائلًا:
- هيا يا جميلتي.. سارعي بتسليم عهدتك حتى يمكننا التمتع بكل لحظة من لحظاتنا معًا.
أبعدت ذراعه في لطف واستدارت نحو أدهم حائرة.. في عينيه عاصفة عبرت بوجهها سريعًا قبل أن تستقر فوق أوراقه متصنعًا اللامبالاة من جديد.. شعرت بظهرها يحترق وهي تغادر مكتبه.. لا يعقل أن تكون ذراع مازن التي عادت والتفت حول خصرها هذه المرة هي ما يحرقه.
أغلقت الباب في رفق دون أن تنظر إليه.. لم تكن في حاجة إلى المزيد من البراهين لتتأكد من كونه يراقبها.
***
من بين كل زملائها في مكتبه وقع اختيارها على باسم ليحل بديلًا لها في إدارة شئون المكتب خلال فترة غيابها.. كان يعلم أن باسم يجيد القيام بعمله بمهارة مشهود لها من الجميع.. لكنه يعلم أيضًا بأنه وسيم وأنيق ويجيد بالأكثر فن التعامل مع النساء.. فوق كل هذا كان يعلم بأن باسم يكن لها شعورًا خاصًا.. مازال يتذكر نظراته المحمومة إليها..
هل جاء اختيارها له بسبب كفاءته حقًا أم أن هناك سبب آخر قادها لتمييزه عن بقية زملائه؟
ثلاثة أيام مضت عجز فيها عن إقناع نفسه بأن غيابها لا يعنيه.. ليس رحيلها هو ما سلبه عقله واتزانه.. لكن العصبية التي غدت تسيطر على جميع أفعاله لا مبرر لها سوى غيابها عنه.. باسم أيضًا يبدو مُكتئبًا مهمومًا.. هل هذا ناجم عن توبيخه المستمر له بسبب وبغير سبب طيلة الأيام الثلاثة الماضية.. أم أنه هو أيضًا يشقى بغيابها مثله؟
ذهبت وحملت معها كل المشاعر الحلوة التي لم يشعر بكونه كان يمتلكها إلا الآن..!
اكتشف الآن فقط بأن عمره كله قد اقتصر على تلك الأشهر القليلة التي أمضتها بالقرب منه.. ها هي الأيام قد عادت به إلى عهدها القاتم معه.. إلى الوحدة التي لا تنتهي..إلى الفراغ والمرارة والألم.. حتى عشقه للعمل الذي لطالما كان مهربًا ومتنفسًا له لم يعد كذلك..
لولا بقايا من عطرها تضمحل يومًا بعد آخر لكره المجيء إلى مكتبه.
هل مازن يحبها بالفعل أم أنها نزوة من نزواته لم تنته بعد؟ ليتها نزوة هذه المرة أيضًا وتنتهي كسابقاتها دون أن تترك أثرًا في حياة صديقه الوحيد.. ولكن ماذا لو لم تكن نزوة؟
الويل له لو كان صديقه وابن خالته يعشقها بالفعل.. وماذا عنها؟
أتراها تبادل مازن مشاعره أم أنها تسعى خلف نقوده؟
الأيام الخمسة التالية بخرت معها ما تبقى له من صبر وجلد.. ما الذي يفعلانه كل هذا الوقت؟ ألم يكتفيا بعد؟ أتراها الآن تعزف له أنشودة العشق والهيام التي أنشدتها لإغوائه؟ يا لها من ساقطة متلونة..! لو لم تكن مرحبة بما يحدث منه ما اختفيا معًا كل هذا الوقت.. فلتذهب للجحيم.
ما الذي يجبره على الاهتمام بمثلها؟
أمسك سماعة الهاتف في عصبية.. سوف ينقذ صديقه من بين براثنها.. نعم.. علاقته بـ مازن تستحق أن يحارب من أجلها.
- فندق شيراتون في خدمتك يا سيدي.
- هل يمكنني محادثة مازن بك..؟ غرفة 107
- عذرًا يا سيدي.. مازن بك غادر الفندق.
- ماذا..؟ أين ذهب ؟
- كل ما أعرفه هو أنه سيعود إلى الفندق بعد غد.
تضاعفت عصبيته وهو يعيد سماعة الهاتف إلى مكانها قبل أن ينهض عن مكتبه ويذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا عله يتعثر في حل لمعاناته.. كيف نجحت في إغوائه دون أن يدرى..؟ كيف وصلت به إلى هذه المرحلة في غفلة منه؟!
ولكن ربما مازن قد اختفى بمفرده.. ما الذي يجعله يجزم بكونها ذهبت معه؟ ولماذا لم تعد إلى العمل لو لم تكن قد ذهبت معه؟!
برقت عيناه في أمل وهو يتناول سماعة الهاتف ويطلب منزلها.. كرر المحاولة عدة مرات من دون جدوى.. لم يتلق جوابًا.. هو ليس في حاجة إلى جواب.. هو على يقين بأنها في صحبته.. إحساسه يكفي.
سوف يعودان بعد غد.. لن يسمح لهما بالهروب مرة أخرى.. يجب أن يظلا تحت ناظريه ما تبقى له من هذه الزيارة.. ولكن كيف؟
تمدد فوق الأريكة مغمض العينين.. أخذ نفسًا عميقًا تلو الآخر محاولًا الاسترخاء.. عليه أن يستعيد هدوءه حتى تنتظم أفكاره المرتبكة.. عليه أن يمسح ذاكرته الآن ويحولها لورقة بيضاء ليعيد تسطيرها كما يشاء.. فلينس كل شيء لقليل من الوقت قبل أن يعاود استرجاعه ببطء فكرة تلو الأخرى.
نهض أخيرًا وهو يطلق صيحة انتصار.. طلب من باسم أن يستدعي له مدير الأمن بالمؤسسة على عجل.. وما إن أقبل صلاح إلى مكتبه حتى أخبره بأن مازن بك سوف يصل بعد غد إلى فندق الشيراتون في عطلة ترفيهية.. وبأنه لا يدري أن هناك إحدى الشركات المنافسة للشركة تراقب خطواته وتحركاته كلها.. لذا سوف نراقبه نحن أيضًا عن كثب حتى يمكننا التدخل لإنقاذه في الوقت المناسب حال تعرضه للخطر.. ولكن يجب أن يبقى الأمر سرًا حتى لا ينزعج مازن بك ويضطر لإنهاء عطلته قبل موعد انتهائها.
قال وهو يركز في عينيه:
- أريدك أن تطلعني على خطواته قبل أن يخطوها.. تزرع في رأسه ما سينبت من أفكار قبل أن ينفذها.. استغل كل ما يمكنك استغلاله حتى تنجز ما أريده منكَ على أكمل وجه.. رجال الأمن بالفندق، مسئولي الاستقبال، خدمة الغرف......
- أمرك أدهم بك.
- تذكر مازن نفسه لا يعلم شيئًا عن هذا الأمر.. عليكَ اختيار رجالك بكفاءة.. لو لم يكن مازن يعرفك جيدًا لطلبت منكَ أداء هذه المهمة بنفسك.
- اطمئن يا سيدي.. كل شيء سيتم كما تريده.
***
هل يبدو مازن اليوم أكثر جرأة عما كان عليه في لندن أم أن هناك شيء تبدل داخلها..؟!
لماذا أصبحت حركاته تزعجها منذ وصوله.. كانت قد اعتادت على بعض التحرر فيما مضى.. لم يكن تقبيل الكفين أو الوجنتين يمثل مشكلة بالنسبة لها.. عوراتها كانت محددة.. لمس ما عداها لم يكن يربكها بهذا الشكل.. فما الذي حدث لها..؟
لماذا يثور جسدها اليوم متمردًا..؟
هل حقًا أفسدتها السنوات التي عاشتها في أوربا أم أن عقده قد انتقلت إليها؟
وكأن عينيه تلاحقانها وتتهمانها بخيانته مع كل لمسة لا ترضيه.. إلى هذا الحد أقنعها بملكيتها له..؟!
جاهدت لتحرر كفيها من بين قبضتيه بلا جدوى فابتسم هامسًا:
- إلهام.. ألم يحن الوقت بعد؟
- ماذا تعني؟
- كيف أثبت لكِ بأنني تغيرتُ بالفعل..؟ أعلم أنني كنتُ طائشًا مجنونًا في بداية معرفتي بكِ.. ربما أزعجتكِ بحديثي غير اللائق مرارًا.. ربما كنتُ فظًا.. متهورًا.. متسرعًا في كثير من تصرفاتي معكِ سابقًا.. ولكن تأكدي أن حبي لكِ غير كل مفاهيمي في الحياة.. بل غير الحياة نفسها في عيني.
- ما أسهل عبارات الحب وهي تتسابق من شفتيكَ..؟! لكنني مازلتُ مُصرة بكونكَ تلهو كعادتك.
- يا لكِ من مزعجة..! وماذا بعد أن أخبرتكِ بأنني أريد الزواج منكِ..؟ هذه هي المرة الأولى التي أفكر فيها بالزواج.. أحبكِ يا إلهام.
- أنا أيضًا أحبك ولكن كما قلتُ لكَ........
قاطعها معترضًا:
- كأخ وصديق وهذه المصطلحات التي لا معنى لها.
- ألا تريد أن تكون أخًا وصديقًا لي؟
- سأكون لكِ كل ما تريدين ولكن أول كل شيء.. أريد أن أكون زوجك وحبيبك.
ضغط على كفيها وأكمل في لوعة وهو يقربهما من صدره:
- هل تشعرين بذلك الزلزال بين ضلوعي؟ ربما تصدقين نبضاتي أكثر من كلماتي.. أذوب شوقًا إليكِ يومًا بعد آخر ولحظة بعد أخرى.
استدارت برأسها لتحدق فيمن حولها بقلق وخجل.. تعلقت عيناها لحظات بالرجل ذي الشارب الكثيف الذي جلس يقرأ الجريدة خلف طاولة قريبة منهما.. هي على يقين من كونه كان يدقق النظر إليها قبل أن يشيح بوجهه عنها ويتظاهر بالقراءة.. لماذا تشعر به يراقبها؟ وكأنها رأته من قبل...
- إلهام.. ماذا بكِ؟
- بالله اترك يدي.. رواد الفندق يحدقون فينا.
- منذ متى وأنتِ تهتمين لهذه الأشياء؟
- مازن.. نحن هنا في مصر ولسنا في لندن.
- نحن لا نفعل ما يشين.. ستغدين زوجتي عما قريب.
- أنا لم أوافق بعد على الزواج منكَ.
- ستوافقين يا حبيبتي.. لن أغادر مصر بمفردي.
- أنا على يقين من هذا.. هل أخبركَ بعدد النساء اللواتي يتطلعن إليكَ الآن في شغف وتمني؟
ضحك في مرح قائلًا:
- ليس هذا ما قصدته أيتها الماكرة.. بل ستكون معي زوجتي.. أنتِ يا إلهام.
تلاقت عيونهما طويلًا.. يا له من قلب جاحد عنيد هذا الذي يسكن ضلوعها.. لماذا لم يعشق مازن بدلًا من عشقه لذاك المستبد؟ مازن الفارس الرومانسي الوسيم الذي أتى خصيصاً من لندن ليعرض عليها الزواج.. مازن العاشق للحياة تتركه لأجل هذا المعقد الكئيب الدائم الوجوم..؟!
- أمازلتِ تُصرين بأنكِ لستِ عاشقة؟
أمسك بكفيها من جديد وراح يغمرهما بقبلات هائمة تفيض عشقًا.. تراخت نظراتها في بطء وكأنها استيقظت من غيبوبة طويلة.
همست بصوت مرتجف:
- مازن.. كفى.. هذا كثير.
بادلها الهمس:
- وجهكِ المتوهج.. نظراتك المشعة.. صوتكِ المختنق.. الرجفة التي تسري في أوصالك.. كلها براهين على عشق قوي يملأ قلبك.
- أنت تهذي.
- أهذي..! كوني عاشق للمرة الأولى لا يقلل من خبراتي.
أشاحت بعينيها بعيدًا عن عينيه ولكنه عاد يهمس من جديد:
- استطيع أن أقسم بأنكِ عاشقة متيمة.
استجمعت ما تبقى لها من قوة لتسحب كفيها من بين قبضتيه قبل أن تنهض وتمسك بحقيبتها قائلة:
- سوف أذهب لأرتب مظهري قبل العشاء.
ابتسامته الصامتة زادتها إنزعاجًا فأسرعت تبتعد عن نظراته بخطوات جاهدت لتبدو طبيعية حتى وصلت أخيرًا إلى دورة المياه المخصصة للنساء.. تأملت وجهها المتوهج في المرآة.. الأمر ليس في حاجة إلى خبير.. أي طفل صغير يمكنه أن يقسم الآن بكونها عاشقة متيمة.
هتفت حانقة:
"أين أنتَ أيها الجاحد لتعلم كم أحبك"
ابتسمت في ارتباك عندما ضحكت فتاة أخرى وقفت بجوارها لتصلح من زينتها.. يبدو أنها دخلت إلى الحمام بينما كانت هي شاردة.
لا تعلم كم من الوقت مضى حتى استطاعت أن تتمكن من السيطرة على انفعالاتها واستعادة قدراتها من جديد.. لم يعد يزعجها سوى حنينها إليه.. حنين أكثر استبدادًا منه.. ربما عليها أن تذهب غدًا لتراه.
حتى وإن لم تسعده رؤيتها يكفيها أن تسعد هي برؤيته.
عادت إلى مازن بابتسامة واسعة بادلها بمثلها قبل أن يقدم لها قائمة الطعام قائلًا:
- انتقي ما شئتِ للعشاء.
- سوف أترك لكَ هذه المهمة.. أنا أثق في تذوقك.
اتسعت ابتسامته وهو ينادي النادل ليطلب منه الأصناف التي يفضلها ثم التفت إليها قائلًا:
- هل تريدين الرقص؟
نهضت بلا تردد.. مازالت تحلق كالفراشات يحملها الحنين إليه.. من الجيد أن ترقص الآن حتى لا تفضحها عيناها من جديد.. سوف تختفي رعدتها وارتجافها بين حركاتها الراقصة.. قلبها كبركان ملتهب كاد أن ينفجر.. كّم الشوق والحنين إليه ما عاد بالمحتمل.. لماذا لا يأتي الآن لتبثه بعضًا منه علها تهدأ؟
ضحكت طويلًا لعبارة ما قالها مازن ولم تسمعها.. قالوا كثيرًا أن العشق يُسكر أكثر من الخمر..
وها هي الآن مخمورة بلا كأس.. مخمورة عشقًا.
تصرفاتها المجنونة تنذر بكارثة.. ربما عليها الذهاب.. خير ما تفعله هو أن تغلق عليها بابها وتحتمي بجدران غرفتها من نفسها.. ولكن من أين لها السبيل؟
دمعت عيناها من كثرة الضحك وما لبثت أن شعرت برغبة عارمة في البكاء.. ما الذي يحدث لها..؟ هل جنت بالفعل؟
هتفت فجأة وهي بين ذراعيه:
- مازن.. أشعر بدوار مفاجئ وأريد العودة إلى منزلي.
- ماذا؟ نحن لم نتناول العشاء بعد.
- لم يعد لي رغبة في الطعام.
- قولي أنك تريدين الهروب.
- الهروب؟!
- نعم.. ولكنني لن أترككِ قبل أن تخبريني من يكون؟
- أنتَ واهم.. أنا لا أفكر في هذا الأمر.
- من أين تعلمتِ الكذب في هذه الشهور القليلة..؟ حسنًا دعيني أخمن أنا من يكون.. ولكن اخبريني أولًا.. هل أنا أعرفه..؟ هل رأيته من قبل؟ أنا مُصر على معرفته.. سوف.........
لم تعد تسمع ما يقوله مازن.. بل لم تعد تُبصره أيضًا.. لم تعد تُبصر أحدًا سوى هذا المستبد الذي تعلقت عيناه بها غير عابئ بتلك المرأة عن يمينه ولا بالأخرى عن يساره..
شعر مازن بعنقه يحترق وهي تهمس:
- أدهم.
انتفضت وكأنها تستيقظ عندما أبعدها مازن قليلًا عنه وراح يحدق في وجهها مصدومًا قبل أن يغمغم:
- ماذا قلتِ؟
اغتصبت ابتسامة قائلة بصوت مازال يرتجف انفعالًا:
- أدهم بك.. يجلس هناك.
هز رأسه متفهمًا وبدا وكأنه تنفس الصعداء وهو يلتفت إلى حيث أشارت قبل أن يجذبها بعيدًا عن المرقص قائلًا في تهكم:
- أدهم يواعد النساء.. واثنتين دفعة واحدة..؟!
تظاهر أدهم بالدهشة وهو ينهض ليحتضن مازن بينما همس الأخير في أذنه ساخرًا:
- ما هذا يا ابن خالتي العزيز.. من منهما فكت العقد؟
ابتسم أدهم قائلًا:
- يا لها من مصادفة رائعة..!
- مصادفة.. وكأنني لم أخبرك باسم الفندق بنفسي؟
- بلى.. ولكنني عندما سألت عنكَ أخبروني بأنكَ غادرت الفندق.
التفت مازن إلى إلهام قائلًا:
- نعم.. ذهبتُ مع إلهام إلى شرم الشيخ.
أردف وهو يقبل يدها قبل أن تسحبها سريعًا:
- كانت أيام رائعة.
غمغم أدهم دون أن يكلف نفسه عناء مصافحتها:
- أهلًا إلهام.
هزت رأسها صامتة فأردف موجهًا حديثه إلى مازن:
- هل تناولت العشاء؟
- ليس بعد.
- هل نتشارك إذًا؟
التفت مازن إلى إلهام متسائلًا:
- ما رأيكِ يا حبيبتي؟
هزت رأسها موافقة وكأنها فقدت النطق.. كانت في عالم آخر.. عالم يجمعها به وحده.. هل سمع مناجاتها بالفعل..؟ هل جاء تلبية لنداء قلبها الذي لا يتوقف..؟ من ذا الذي يتجرأ بعد الآن وينكر حبه لها؟ كيف له أن يسمع مناجاتها لو لم يكن يشعر بها..؟
فليبخل بمشاعره كما يشاء.. ليتحاشى النظر إليها.. ليحرمها من عناق أناملهما ولو في مصافحة قصيرة.. ليتحدث معهم ويتجاهلها وكأنها ليست بينهم.. ليفعل ما يشاء.. كل هذا ما عاد يقلل من يقينها بحبه لها.
لم يمض وقت طويل حتى استأثر مازن بمعظم الحديث.. يبدو أنه كان على معرفة سابقة بـ صافي الطحان.. وطد علاقته أيضًا بـ نورا صادق فبدا وكأنه يعرفها منذ زمن.
أخيرًا استجاب أدهم لعيونها التي تعلقت به في حنين نهم.. نظراته الحادة التي تفيض اتهامًا زادتها إحباطًا ولكنها ابتسمت في عتاب فقال بلهجة أكثر حدة:
- أرجو أن تكوني سعيدة في أجازتك وأنتِ بعيدة عنـ........ المكتب.
ضحكت لتستفزه قائلة:
- جدًا.
عادت تهمس في نبرة لم يستوعبها:
- أنا سعيدة جدًا الآن.. أسعد امرأة على وجه الأرض.
قال بضيق لم ينجح في إخفائه:
- إلى هذا الحد..!
لكم افتقدت نظرة التملك التي رماها بها الآن.. لكم تعشقها رغم أنانيته التي تكمن فيها..؟!
ما كادت ابتسامتها تتسع لتملأ وجهها حتى فوجئت بنظرات صافي العدوانية الموجهة نحوها ونحوه.. عجبًا.. لم تكن صافي وحدها هي من يحدق فيهما متفحصًا.. مازن أيضًا كانت نظراته غامضة.. القتامة التي غطت قسماته فجأة أخبرتها بأنه وجد الإجابة على سؤاله المُلح..
هل علم بعشقها لأدهم..؟ هل صافي أيضًا علمت بالأمر..؟ هل تفضحهما عيونهما لهذا الحد؟
صمتت ألسنتهم فجأة بينما لم تكف عيونهم عن الحديث.. بل عن الصراخ.. نظرات صافي الحاقدة لها تبعها التصاقها بأدهم في تملك وكأنها تحذرها من مغبة الاقتراب منه.. صافي تجد في أدهم ملكية خاصة لها؟
نورا صادق.. تلك الصحفية الكريهة.. يبدو أنها وجدت في الأمر تسلية كبرى وهي تتجول بنظراتها بينهم بعيون ماكرة وابتسامة أكثر مكرًا.. وكأن نورا تشمت في صافي ولكنها في الوقت ذاته ترى أن أدهم الشربيني أكبر كثيرًا من أن يقع في عشق هذه السكرتيرة البائسة.
نهض مازن فجأة قائلًا:
- إلهام.. هيا بنا.
وجدت في دعوته فرصة للخلاص من نظراتهم النارية الحاقدة فنهضت على عجل وهي تبتسم قائلة:
- بالطبع.. هيا بنا.
مازن لم ينادها حبيبتى كما اعتاد أن يفعل مؤخرًا.. ناداها باسمها.. لم تعد في شك الآن من كونه أصبح على علم بعشقها لأدهم.. أدهم.. كم كانت تود البقاء بالقرب منه لولا عيونها التي تفضحها كلما نظرت إليه..؟!
هتف أدهم فجأة في لهجة لا تقل شوقًا عن شوقها إليه:
- أين ستذهبان؟
ابتسم مازن في تهكم قائلًا:
- سوف نكمل سهرتنا في مكان آخر.. هل تحب أن تأتي معنا؟
حسدته على رباطة جأشه وسيطرته على انفعالاته عندما قال في هدوء رغم نظراتهم التي صوبت نحوه هذه المرة:
- كلا.. يجب أن أستيقظ مبكرًا.. أتمنى لكما سهرة سعيدة.
***
وصل إلى مكتبه متأخرًا على عكس عادته.. لم يذق للنوم طعمًا ليلة أمس.. ذهابها مع مازن لم يكن هو وحده ما أزعجه.. رغم أنه تفنن في صنع حيل وذهب إلى الفندق خصيصًا من أجل رؤيتها.
لم يستطع الانتظار حتى يقدم له صلاح المعلومات بشأنهما.. الرغبة العارمة التي انتابته لرؤيتها ابتلعت كل صبر يملكه.
حديث صافي اتسم بقلق كبير وهي تسأله عنها.. تلميحات نورا لم تكن بريئة حول علاقته بها.. هل أصبحت مشاعرهما واضحة إلى هذا الحد؟
وهل مازن أيضًا استطاع أن يلحظ شيئًا..؟ لقد تغيرت معاملته له فجأة.. فهل العصبية التي انتابته بلا مبرر كانت بسبب ذلك؟ هل تعمد إبعادها عنه لأنه شعر بالغيرة؟
دخل باسم إلى مكتبه ليخبره بأن صلاح يريد مقابلته.. لابد وأن الأخير يحمل المزيد من الأخبار حولهما.. لم يعد في عقله متسعًا لاستيعاب المزيد.
- صباح الخير أدهم بك.
- صباح الخير.. هات ما عندك.
قال صلاح وهو يقدم له أحد الملفات مبتسمًا:
- ستجد هنا تقريرًا مفصلًا عن كل تنقلات مازن بك خلال اليومين السابقين.. وكذلك كشفًا بأسماء النزلاء الذين توافدوا إلى الفندق مع وصول مازن بك.. ستجد أيضًا اسطوانة تحتوى على مشاهد لتنقلات مازن بك داخل الفندق وخارجه فربما تعرفت سيادتك على بعض الوجوه التي تعمل لدى الشركات المنافسة.
- أهناك شيء آخر؟
- نحن في انتظار أوامرك ادهم بك.
- حسنًا.. سوف أطّلع على هذا الملف وأخبرك بما يجب عليك فعله.
ما إن تركه صلاح حتى أمسك بالأسطوانة ووضعها في جهاز الحاسوب.. هي وحدها ما يهمه من هذا الملف.. كم كان يتمنى أن يحصل على اسطوانة أخرى لرحلتهما في شرم الشيخ..؟!
ابتلع ريقه بعصبية وهو يتابعهما من مشهد لآخر.. وما الذي كان يتوقعه.. أليس من المفترض أنهما عاشقان..؟
ابتسامات.. ضحكات.. همسات لا تنتهي.. ما الذي يقوله لها ليجعلها تضحك بهذه الطريقة..؟ يدها لا تفارق يده في كل جولاتهما.. وماذا إذًا عما حدث بينهما في شرم الشيخ.. كانا بلا رقابة هناك وسط الأجواء المتحررة..؟
هل نزلا البحر معًا..؟ هل ارتدت "مايوه"..؟ أكان قطعة واحدة أم قطعتين؟
وكأن مازن هو المتيم بالأكثر..! أهذه النظرات الهائمة التي يصوبها نحوها تنم عن حالة عشق حقيقية أم أنها حيلة إعتاد بها أن يوقع ضحاياه..؟
أما هي فكانت تلهو.. تتسلى كعادتها بمشاعرهم.. هل أمره لا يعنيها بالفعل أم أنها تتصنع الدلال؟ أتراها حقًا تعشقه هو وليس مازن؟
إن كان الأمر كذلك.. إن كانت صادقة في مشاعرها نحوه.. لماذا وافقت على الذهاب مع صديقه منذ البداية..؟ لماذا لم تعترض..؟
كان يمكنها أن تختلق مئات الأعذار للرفض حتى وإن كان قد جاء خصيصًا من أجلها.. وكيف وافق والديها على ذهابها معه..؟ يا لها من أسرة بلا رقيب..!
لا شأن للتحرر بما يفعلونه من انحلال.. ورغم هذا فهو يجن أحيانًا ويتخيل نفسه فردًا منها..!
أتسعت عيناه فجأة كالمجنون وهو يحدق في شاشة الحاسوب قبل أن يغلقهما في ألم ولوعة.. في تحدٍ مع نفسه راح يعيد المشهد عشرات المرات وهو يشعر بقلبه يقسو مرة تلو الأخرى.
هذا المشهد كان ليلة أمس.. ها هي تتطلع إلى مازن بنفس النظرات الهائمة الحالمة التي استقبلته هو بها بعد ساعات قليلة..!
وجهها يتوهج بذلك السحر الذي ترمي به ضحاياها حتى الثمالة.. سحرها الذي جعل من مازن أسيرًا خانعًا يلثم كفيها في عبودية أكثر منها عشقًا..!
هل كانت تأمل أن تفعل هذا به هو أيضًا..؟ هو المعتوه الذي لم يحتمل الانتظار حتى ينقل له صلاح أخبارها بل راح يخطط ويدبر حتى يستطيع رؤيتها؟
اللقطات التالية زادته غضبًا بلغ حدًا هيستيريًا.. ها هو كالأبله تفيض نظراته حنينًا إليها.. أي طفل صغير يمكنه أن يرى في عينيه شوقًا يعلن عن عشق لا ينتهي.. لا عجب من قلق صافي ولا سخرية وتهكم نورا.. ولا غضب مازن أيضًا..!
ضرب المكتب بقبضتيه حتى صرخ ألمًا.. لاشك أن صلاح ورجاله شاهدوا هذا الفيديو.. ماذا سيقولون عنه الآن؟
عاد يكرر المشهد الذي يجمعه معها علّه يجد سببًا يفسر به للآخرين سر نظراته إليها.. ولكن كيف..؟
نظراته إليها كانت فضيحة في حد ذاتها..
كان يلتهم قسماتها التهامًا.. لا معنى آخر لما يفعله سوى كونه عاشق متيم.
ولكنه معذور.. هل شاهدوا كيف تنظر هي إليه..؟ هل لامسوا ابتسامتها عن قرب.. هل تذوقوا عذوبة أنفاسها الأشهى من الشهد..؟ هل أدركوا كم هي ناعمة كالحية تخدر ضحاياها ومن ثم تقتلهم..؟ تسلبهم عقولهم بلا رحمة.
من الجيد أنه تريث ولم يخبرها بمشاعره نحوها حتى الآن.
يستطيع أن يتبرأ من حبه لها غير مدان مادامت شفتاه لم تصرحا بشيء منه.. ولكن كيف له أن ينقذ كبرياءه ؟ عليه أن يجد حلًا عاجلًا.. ماذا لو أن هناك نسخة أخرى من هذه الاسطوانة راحوا يتبادلونها فيما بينهم..؟ سوف يجعلوا منه أضحوكتهم لوقت طويل.. ولماذا لا يفعلون.. ما الذي سيمنعهم؟
ضغط على الزر أمامه قائلًا:
- باسم.. أريد صلاح حالًا في مكتبي.
لم يمض وقت يذكر حتى وجد صلاح أمامه.. الابتسامة الماكرة التي يجاهد لإخفائها زادت من انزعاج أدهم وعظمت مخاوفه.. للمرة الأولى في حياته يشعر بهذا الضعف والخجل لفعل مشين قام به.
حاول أن يبدو هادئًا وهو يقول:
- راجعت الملف الذي قدمته لي ولم أجد شيئًا مريبًا يستحق منا كل هذا الانزعاج.. يمكنكَ أن تتوقف عن مراقبة مازن بك فلا حاجة لنا بها.
- أمرك أدهم بك.
لم يقنعه الاحترام الذي غلف به كلماته بقدر ما ضاعفت الطريقة التي تحدث بها من حيرته وجنونه.. كاد صلاح أن يغادر مكتبه عندما هتف به فجأة:
- انتظر.. هناك أمر آخر أريدكَ أن ترتب له.
استدار إليه صلاح في لهفة فتابع بصوت جهور:
- أريدكَ أن تبحث لي عن قاعة أفراح مناسبة.. سوف أعلن خطبتي الخميس المقبل.. تذكر.. لا أريد أن تعلم الصحافة بالأمر.
- تهنئتي يا أدهم بك.. ومن تكون سعيدة الحظ؟
حدق في عينيه قائلًا:
- هل تستطيع التخمين؟
هتف صلاح في سرعة أكدت ظنونه:
- إلهام بالطبع.
لم يكن في حاجة لتصنع الغضب الذي كسى قسماته فسارع صلاح بالقول:
- أقصد.. إلهام هانم.
تظاهر أدهم بالدهشة قائلًا:
- ولماذا إلهام.. هانم؟
ارتبك صلاح وحاول أن يبحث عن كلمات مناسبة ولكنه غمغم في النهاية:
- عفوًا.. لا أجيد التخمين.
- حسنًا.. احجز أنتَ القاعة يوم الخميس القادم وسوف تعرفها يومها.
تركه صلاح بأقدام ترتجف ووجهه أرضًا كما كان يرهبه دائمًا.. الوضع أفضل كثيرًا الآن.. لم تخلق بعد المرأة التي تجعله يفقد هيبته و وقاره من أجلها.. كلهن كاذبات ماكرات.. كلما ازددن نعومة كلما ازددن مكرًا ودهاءً ووجب الابتعاد عنهن.
عليه أن يعود إلى خطته الأولى التي رتب لها قبل أن يراها ويسقط كالدلو في سحرها الزائف.
أمسك بسماعة الهاتف وطلب صافي الطحان.. كادت تجن عندما أخبرها بأنه سيزورهم اليوم في منزلهم.. يكاد يقسم بأنها سقطت مغشيًا عليها.. فهي حتى لم تعلق على كلماته القليلة التي وضح بها رغبته في الزواج منها قبل أن ينتهي الاتصال بينهما.. نعم هي صافي الطحان لا سواها.
لينك الحلقة الثانية عشر
https://bit.ly/3ijCbiR