رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة الثانية عشر
الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.
حلقة ١٢
رغم أن السهرة كانت رائعة.. ورغم كونه أبرم فيها صفقتين لا صفقة واحدة.. إحداهما تعتبر ثروة في حد ذاتها.. غير أنه بدا شاردًا مهمومًا وهو يقود سيارته عائدًا بها إلى منزلها.
مطت إلهام شفتيها قائلة:
- إن كنتَ مهمومًا بشأن عمولتي فأنا لا أريدها.
تجاهل مزاحها قائلًا:
- ماذا يعمل والدكِ؟
- أبي بلا فخر.. مدير عام في وزارة الري.
- هل تعمل والدتكِ؟
- كانت تعمل قبل الزواج.. ولكنها تركت العمل للتفرغ لرعايتي أنا وأختى داليا.
- من أين لكِ إذًا بهذه المساحيق الباهظة الثمن..؟ بل وهذه الملابس أيضًا..؟ ولا تحاولي إقناعي بأن موظف في الحكومة قادر على تحقيق هذا المستوى من الرفاهية مهما بلغ راتبه.
تنهدت في ضيق قائلة:
- اختي ترسلها لي.
استدار لينظر في عينيها قائلًا:
- أختك أم......
- أم مَن؟
- كُفي عن إثارتي.. أخبرتكِ مرارًا ألا تبادليني سؤالًا بآخر.
- لكنكَ لم تكمل سؤالك.. مع من تظن بي سوءًا هذه المرة؟
زفر فى ضيق ولم يعلق.. لماذا تسعى دائمًا إلى المراوغة؟ لمَ لا تخبره صراحة بأن مازن هو من يرسل لها هذه الهدايا من لندن؟ وليته يعلم ما هو الثمن الذي ينتظره منها بالمقابل..؟! هذا إن لم يكن قد حصله بالفعل.
صمته أزعجها.. تستطيع أن تخمن إلى أين ذهب به تفكيره وحُكمه الغاشم.. وإلى أين أخذته عقده التي لا يبدو أنها ستنجح في فكها بسهولة.
ربما عليها أن تضع كبرياءها جانبًا وتتنازل عن كرامتها قليلًا حتى تستطيع الدفاع عن نفسها أمامه.. اتهاماته أبشع من أن تتحملها ولكن حبها له أكبر من أن تستسلم لها وتتقبلها صامتة.
قالت مرغمة:
- داليا هاجرت مع زوجها إلى لندن.. داليا اختي الوحيدة.. هي من يرسل لي هذه الماركة وغيرها من الماركات العالمية الأخرى.. تشتريها بأسعار خاصة غالبًا.. وهي من ترسل لي أيضًا الكثير من ملابسي.
كان ينصت إليها دون أن يحول بصره عن الطريق.. الراحة التي كست ملامحه وهو يستمع لها انتقلت إليها رغم شعور المهانة الذي جاهدت للتخلص منه.. أردفت لتقتل هواجسه بلا رجعة:
- أبي لا يبخل عليَ بالنقود.. فأنا ابنته الوحيدة الآن بعد أن تزوجت داليا.. شقتنا ملك لنا لذا لا يرهقنا إيجارها.. بالإضافة إلى أنني أعمل في مؤسستك وأنتَ تقدم لي راتبًا كبيرًا.. هل هناك شكوكًا أخرى بشأني؟
نظر إليها وتنفس الصعداء.. ربما استراح الآن بخصوص هذه النقطة.. ولكن ماذا عن تصرفاتها الطائشة الأخرى..؟ ماذا عن هؤلاء الرجال الذين تتلاعب بهم من حين لآخر..؟
تشاغلت عنه بالنظر من نافذة السيارة حتى توقف أخيرًا أمام منزلها.. إلى متى يجب عليها أن تتحمل شكوكه التي لا يبدو أنها ستنتهي..؟
همس وهو يفتح لها باب السيارة:
- شكرًا لكِ على كل ما فعلته لأجلي هذه الليلة.
- إن أردتَ أن تشكرني.. اصعد معي إلى مسكني.
اتسعت عيناه عن آخرهما فأردفت بسرعة:
- أبي يريد مقابلتك.. كان غاضبًا لأنكَ انتظرتني بالسيارة ولم تصعد لأخذي من الشقة بنفسك.
- أحقًا؟
- ألا تصدقني؟
- ولماذا لا يغضب هكذا عندما تتنزهين مع حامد بك.. ام أن حامد يصعد ليأخذك من الشقة؟
هل يجب عليها أن تخبره بأنها لم تخرج مع حامد هذا سوى مرة واحدة فقط..؟ وأن خروجها معه كان رغبة منها في التعرف عليه هو عن قرب..؟ وبأن حديثهما كله كان عنه وعن طفولته اللعينة التي تدمر شبابه وشبابها الآن؟
صاحت في عناد لم تستطع مقاومته هذه المرة:
- أدهم بك.. أنتَ مدين لي بجزء مما أنجزته اليوم.. أتنكر هذا؟
- كلا لا أنكر.. سوف أضاعف حافزك.
- أنا لا أريد نقودك.
- ما الذي تريدينه إذًا؟
- أريدكَ أن تصعد معي إلى مسكني وتسلمني إلى أبي.
- هل تعلمين كم الساعة الآن؟ لقد قاربت الواحدة صباحًا.
- لهذا يجب أن تصعد معي.. بماذا أخبر أبي عندما أعود بمفردي في مثل هذا الوقت؟
زفر بضيق قبل أن يغادر سيارته قائلًا:
- حسنًا يا إلهام هانم.. تقدمي أمامي.
آهً.. لو يتركها الآن لتصعد الدرج عدوًا إلى الطابق السابع حيث تقطن.. لو يعلم كمّ السعادة التي تملكتها.. لو أنه فقط يشعر بها..!
وصل المصعد الكهربائي فأزاحها داخله ووقف متحفزًا على بعد خطوات منها.. ابتسمت صامتة وهي تراقب القلق الذي انتابه حتى توقف المصعد أخيرًا.. تبعها على مضض.. ماذا لو فتح أحدهم باب شقته الآن ورآهما معًا في مثل هذا الوقت المتأخر؟ كان حكيمًا بالفعل عندما قرر أن يبتعد عن الصحافة.
من الجيد أن لا أحد يعرفه...
راحت تقرع الباب تطبيلًا كعادتها عندما تكون سعيدة ولكنه أمسكَ يدها بقوة وهو يهمس بصوت بالكاد بلغ مسامعها:
- هل جننتِ.. أليس معك مفتاحًا للشقة؟
- المفتاح في حقيبتي.
- اخرجيه وافتحي الباب إذًا.
- لابد أن أطرق الباب أولًا.. ماذا لو كان والداىَّ في وضع حميمي؟
هتف مستنكرًا:
- وضع حميمي.. في هذه السن؟
- وما شأن السن في أمر كهذا أيها الحاقد المعقد؟
خطف حقيبتها وراح يعبث فيها بحثًا عن المفتاح في نفس اللحظة التي فتحت فيها والدتها الباب فألقى بالحقيبة أرضًا ووقف يتطلع إليها صامتًا.
ضحكت إلهام وهي تنحني لتلتقط حقيبتها قائلة:
- أدهم بك يا أمي.
تعجب أدهم لرد الفعل المفاجئ من المرأة التي انفرجت أساريرها وهي تتفحصه في إعجاب قبل أن تهتف لتنادي زوجها:
- حبيبي.. صبري.. أدخلا إلى الصالون.. سوف أستدعي والدكِ في الحال.
استوقفها أدهم قائلًا:
- مهلًا يا سيدتي.. لقد تأخر الوقت كثيرًا.. بالكاد أصل إلى منزلي.
- هل يعني هذا أن ننتظرك غدًا على الغداء مع إلهام؟
نظر أدهم إلى إلهام في تردد قبل ان يهز رأسه موافقًا.. وما لبث أن ودعهما وانصرف على عجل كمن يهرب من فضيحة.
احتضنت إلهام والدتها في سعادة وهي تهتف في نشوة:
- أمي أنتِ رائعة.. أين أبي؟
- خلد للنوم وأوصاني أن أوقظه عند عودتك.
- ولكن......
غمزت والدتها قائلة:
- ولكن سأذهب للنوم الآن ولن أزعجه في مثل هذه الساعة المتأخرة.. تصبحين على خير يا حبيبتي.. لا تسهري طويلًا حتى تتألقي غدًا.
ضحكت إلهام وهي تقبلها قائلة:
- سأحاول يا أمي أن أعمل بنصيحتك الصعبة جدًا.. تصبحين على خير.
***
- تفضل يا أدهم بك.
- ما هذا؟
- تقرير عن أهم المجلات النسائية التي تقدم أحدث خطوط الموضة.. ليس في مصر وحدها.. بل في العالم كله.
- متى ستصل الشحنة الأولى؟
- الأسبوع القادم.
- حسنًا.. يُفضل أن ننتظر حتى تصل بالفعل.
- ولمَ لا نبدأ في الدعاية منذ الآن؟ ليس من عاداتك إهدار الوقت.
تعلقت عيناها بالساعة الكبيرة المعلقة فوق الجدار.. راحت تعد الدقائق والثواني ساخطة.. ألن ينتهي هذا اليوم أبدًا..؟ ربما عليها أن تحمل هذه الساعة الكسيحة معها إلى منزلها حتى يتوقف الزمن هناك أيضًا.
حاولت التركيز في عملها حتى يحين موعد الانصراف.. تكررت الأخطاء ذاتها أكثر من مرة.. عقلها المسافر إليه أبى أن يستكين قليلًا في أي اتجاه عداه.. أدهم سيكون في بيتها بعد ساعات قليلة.. ستضمه جدران طالما ضمتها.. سيجلس فوق الأريكة والكراسي حيث تجلس.. سيتقاسم معها طعامها وأنفاسها و.........
- أريد مقابلة أدهم بك.
رفعت رأسها في حدة تتأمل المرأة الثلاثينية الرشيقة التي بادلتها نظراتها في دهشة لا تخلو من بعض التملل.. منذ متى وهي تقف أمامها يا ترى..؟ يبدو أنها كانت شاردة أكثر مما يجب.
سألتها بنبرة مشوشة:
- هل لديكِ موعد مسبق يا سيدتي؟
زفرت المرأة بضيق قائلة:
- نعم.
- ما اسمك؟
- نورا صادق.
كتلميذة فاشلة تناولت دفتر المواعيد وراحت تفتش عن اسم المرأة بين سطوره بيد مرتعشة ونظرات زائغة.. لا تتذكر كونها سجلت اسمها من قبل.. فهي تحفظ أسماءهن عن ظهر قلب.. على أية حال فهو نادرًا ما يتعامل مع النساء.. ولكن من تكون هذه المرأة..؟ وكيف تقول أنها على موعد معه؟
- عفوًا سيدتي.. اسمك ليس مدونًا عندي؟
صاحت المرأة بصبر نافد:
- فقط اخبريه بوجودي.. نورا صادق.
نهضت دون أن ترفع عينيها عن تلك التي بادلتها نظراتها ساخطة.. طرقت باب مكتبه في رفق قبل أن تدلف إليه.. أزعجها كونه طلب منها أن تدخلها ما إن أخبرته باسمها..!
صاحت ساخطة:
- ولكن اسمها ليس مدونًا في دفتر المواعيد.
- أنا من اتصلت بها هذا الصباح وطلبت منها الحضور.
- لماذا؟
ضاقت عيناه وهو ينظر لها محذرًا ولكنها أردفت في انفعال:
- من هي هذه المرأة؟
- ادخليها.
لم تسمح لها نظراته بقول المزيد فعضت على شفتيها في تذمر وغادرت لتنفذ ما طلبه منها.
الوقت الكسيح مات كليًا الآن.. توقفت عقارب الساعة بالفعل ما خلا تلك الرفسات المتقطعة وكأنها تحتضر.. عجبًا.. أنفاسها هي الأخرى توحدت معها.. سوف تموتان معًا بعد قليل..
ترى أى انفجار سيكون أكثر ضجيجًا.. انفجارها أم انفجار هذه الساعة..؟!
أخيرًا فتح باب مكتبه ليودع زائرته.. ضحكاتها المرحة وهي تترك يدها بين يديه فجرت شرايينها واحدًا تلو الآخر فعادت تتساءل عن هويتها ولكنها لم تتجرأ على سؤاله هذه المرة.
تنفست الصعداء أخيرًا وهي تودع آخر زملائها في المكتب.. عادت تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تدلف إلى مكتبه في لهفة حاولت إخفاءها قائلة:
- أدهم بك.. هل يمكننا الذهاب الآن؟
القى عليها نظرة عابرة قبل أن ينقر بقلمه فوق مكتبه في شيء من التوتر الذي انتقل إليها فهمست في توسل:
- لا تقل بأنكَ تراجعت عن وعدكَ بتناول الغداء معنا.
- لم أعتد أن أحنث بوعودى ولكن........
- ولكن ماذا؟
- والدك..؟!
حدقت به مستفسرة فأردف:
- هل يعرف بزيارتي.. هل هو في انتظاري الآن؟
أمسكت بسماعة الهاتف وقبل أن يستوعب ما تفعله أجابت محدثها على الطرف الآخر:
- أبي.. أدهم بك يريد محادثتك.
لم يجد مفرًا من تناول السماعة من يدها مرغمًا وهو ينظر إليها موبخًا قبل أن يقول بصوت هادئ:
- أهلًا صبري بك.. يسعدني التعرف عليكم وأرجو أن لا أكون سببًا لإزعاجك.. أشكرك يا سيدي.. كان الوقت متأخرًا بالأمس عذرًا...
***
وضع صبري سماعة التليفون في بطء قبل أن يلتفت إلى زوجته التي تشاغلت بتنسيق الزهور فوق الطاولة.. سألها في حيرة:
- هل أنتِ واثقة من كونه صغيرًا في السن؟
- بالطبع.. ليس صغيرًا فقط بل ووسيمًا أيضًا.
- جراحات التجميل وصبغات الشعر قد تخدع أحيانًا.
- ليس لهذا الحد.. فهو بالكاد يبدو في الثلاثينات من عمره.
- الثلاثينات..؟! كان الوقت متأخرًا فكيف تجزمين بالأمر؟
- حسنًا.. سوف تراه بنفسك بعد قليل.
***
السعادة التي تغمرها وهي تجلس بجواره في السيارة التي قادها بنفسه اليوم أيضًا.. كانت تكفي العالم أجمع.. تشبثت بصعوبة بروحها التي تحاول الإفلات منها لتسبقها إلى منزلها.. كم كانت تود أن تستقبله بنفسها هناك..؟! كم مرة تخيلت أن تفتح الباب لتجده أمامها حاملًا باقة من الورود الحمراء وتلك الغمازات تقسم وجنتيه في ابتسامة رائعة؟!
أزعجها أنه كان يبدو كالصنم وهو يحدق في الطريق أمامه غير عابئ بنظراتها التي تغزو وجهه غزوًا منذ غادرا المؤسسة.. عادت ذاكرتها مرغمة لتلك المرأة.. أتراه يفكر فيها؟
- أدهم.. أدهم.. أدهم.
التفت إليها في نظرة عابرة ليعاود بعدها النظر إلى الطريق من جديد.. صاحت بعصبية:
- لماذا تتجاهلني؟
- عندما تنطقين اسمي بطريقة صحيحة سوف أسمعك وأجيبك.
اتسعت عيناها مستنكرة قبل أن تردف:
- أدهم بك.. هل تسمعني الآن؟
- ماذا تريدين؟
زفرت ساخطة قبل أن تهمس بصوت غنج:
- من كانت هذه المرأة؟
التفت إليها صامتًا فأردفت:
- تلك التي زارت مكتبك في الصباح؟
لماذا يصمت هكذا.. أهو حقًا لا يتذكرها أم أنه يتلذذ بحيرتها ..؟ عادت تكرر في عصبية لم تستطع كبحها:
- نورا صادق.. لا تقل بأنـ.........
قطعت عبارتها ولكزته في جنون عندما لاح لها شبح ابتسامة يحاول إخفاءها قبل أن تطل من شفتيه.. صاحت مستنكرة:
- أنتَ تتسلى بحيرتي إذًا.. لماذا لا تجيب تساؤلي؟
- أنتِ تتدخلين في أمور لا شأن لكِ بها.
- أدهم.
زمجر محذرًا فأردفت:
- حسنًا أدهم بك.. أنا مديرة مكتبك ومن حقي أن أعلم من تكون هذه المرأة التي دخلت مكتبك دون موعد مسبق.
- أخبرتكِ بأنني من اتصلت بها وطلبت منها الحضور.
- كفى مماطلة واخبرني من تكون؟
التفت ليعنفها.. لانت ملامحه وهو يتأمل قسماتها التي تتلوى غيرة قبل أن يلتفت إلى الطريق من جديد قائلًا:
- نورا صادق.. صحفية في مجلة "نساء فاتنات".. سوف تتولى حملة الدعاية للصفقة الجديدة.
مضى بعض الوقت وهي تحدق في وجهه صامتة وما إن استدار إليها حتى أبعدت نظراتها عنه وراحت تلعن ساخطة بعبارات لم يفهم منها شيئًا فضحك قائلًا:
- ما هذا الذي تفعلينه؟
لم تلتفت إليه هذه المرة.. ربما من حقها أن تتجاهله كما يتجاهلها.. يبدو أن هذه الصفقة التي كانت هي سببًا فيها بلا قصد.. ستجر عليها الكثير من اللعنات بلا قصد أيضًا.. نساء فاتنات.. إلى أي حد يمكنه أن يتأثر بهن؟
ما إن غادرا المصعد الكهربي حتى هتف بها:
- حذار أن تطرقي الباب تطبيلًا كما فعلتِ المرة السابقة.
- امسك يدي إذًا حتى لا أفعلها.
- اخرجي مفتاحك يا إلهام.
- أمرك أدهم بك.. ولكن ألستَ معي في أنه من الأفضل أن نطرق الباب أولًا؟
- حتى لا نفاجئ والديكِ في وضع حميمي؟!
- بل حتى لا نفاجئ أبي بـ مريلة المطبخ.
- ماذا؟ يبدو أن والدتك تسيطر على الوضع جيدًا.
- أما لعقدكَ من نهاية..! لمَ لا تقل بأنه يساعدها عشقًا؟
التوت شفتيه ولم يعلق قبل أن يطرق الباب بهدوء.. اتسعت عيناه عن آخرهما قبل أن يتحكم في انفعالاته وهو يرد تحية والدها الذي بدا مصدومًا هو الآخر حين ألقى بالمنشفة من يده و أشار لهما بالدخول في عصبية قائلًا:
- تفضل يا ولدي.. أقصد يا أدهم بك.
قاده الرجل إلى صالون مذهب وهو يغمغم مبتسمًا:
- يا الله.. تبدو صغيرًا جدًا في السن..! لدرجة يصعب معها التصديق بأنكَ أدهم الشربيني الذي طالما سمعنا عنه.. لم أصدق سلوى عندما أخبرتني بهذا.
حدق به أدهم في تساؤل فأردف:
- سلوى زوجتي.. والدة إلهام.
هز أدهم رأسه متفهمًا في ابتسامة دبلوماسية بالكاد فرت من شفتيه.. إنه الرجل ذاته الذي كان بصحبتها ذلك المساء في الفندق.. يا لها من مزعجة..! لماذا لم تخبره بأنه والدها منذ البداية..؟ لماذا تركته يبني المزيد من الأوهام عن علاقتها به..؟ ماذا تخفي عنه أيضًا؟
- لحظة واحدة أدهم بك.. أنتَ في بيتك.
هز أدهم رأسه متفهمًا وهو يجلس فوق الأريكة حيث قاده.. راحت عيناه تتفحص المكان من حوله.. لم يكن في فخامة منزله ولا ثرائه.. أثاثه بسيط ولكنه بالفعل كان دافئًا مريحًا وكأنه يرحب بوجوده بينهم.. جدرانه المشرقة بألوانها الزاهية المضيئة تبعث سرورًا خاصًا يشبه ابتسامة إلهام وبريقها.
نهض ليرحب بوالدتها التي أتت مهللة لاستقباله قائلة بصوت غنج لا يختلف كثيرًا عن صوت ابنتها:
- أهلًا يا أدهم.. يسعدنا جدًا وجودك بيننا.
قابل حفاوتها في هدوء أثار حفيظتها بينما نظر إليها زوجها في حدة تحمل شيئًا من التحذير.. فعادت تقول:
- عذرًا أدهم بك إن كنتُ قد أسقطتُ الألقاب.. ولكنني شعرتُ بأنكَ واحد منا.
ابتسم في دبلوماسية ولم يعلق.. يبدو أنه قد انزعج بالفعل من لهجتها الحميمية في الحديث معه.. شعرت ببعض الشفقة نحو ابنتها.. ألم تجد سوى هذا المتعجرف لتسقط في هواه..؟ وهل هو يبادلها عشقها بمثله أم أنه لا يشعر بها..؟
نظرت إلى زوجها وقالت ساخطة:
- حبيبي.. أقصد صبري بك.. هل ساعدتني في إعداد المائدة من فضلك؟
ابتسم الرجل في مرح قائلًا:
- اذهبي يا إلهام لتساعدي والدتك.
ولكن المرأة غمزت له بعينها قائلة:
- كلا.. اترك إلهام لتعتني بضيفها.
تجولت عينا الرجل بين أدهم وإلهام قليلًا قبل أن ينهض في تردد ليتبعها.. وما إن ابتعدت خطواته حتى همس أدهم:
- ماذا قلتِ لوالديكِ عني؟
- ماذا تعني؟
- الحميمية التي يتعاملان بها معي تشعرني بالقلق.. أخشى أن تكوني قد تهورتِ كعادتكِ دائمًا.
ضحكت قائلة:
- اطمئن.. لم أخبرهما بعد بأنكَ أتيتَ لخطبتي.
تطلع إليها طويلًا حتى تخضب وجهها بحمرة أثارت دهشته.. أيعقل أنها تخجل كبقية النساء؟!
تلاشت حيرته سريعًا عندما اقتربت يدها من شفتيه لتضع في فمه قطعة من الشوكولاتة.. ضغط كفها في عنف قائلًا:
- ماذا لو أقبل علينا أحد والديكِ الآن؟
تأوهت في ألم وهي تنزع يدها من قبضته وما لبثت أن وضعت قطعة الشوكولاتة في فمها ساخطة.
تفحصها قائلًا:
- أحقًا لا يعترض والدكِ على ما تفعلينه؟
- كنتُ أحاول الترحيب بكَ لا أكثر.
- هل تسخرين من أنوثتك أم من رجولتنا؟
- لماذا تفسرها بهذه الطريقة؟
- لأن ليس لها تفسيرًا آخر.
- أدهم.. أنا..
- أنتِ ماذا؟ لابد أن يكون هناك حدود في تعاملك مع الرجال.
- لا أريد حدودًا بيني وبينكَ.
- وماذا عن غيري.. ماذا عن عبد العظيم مثلًا.. كنتِ تطعمينه في فمه هو أيضًا غير مبالية بمن حولك؟
- عبد العظيم صديق عزيز لا أكثر.
- الصداقة لا تبرر ما تفعلينه.
- أنتم تبالغون كثيرًا في مصر.. عندما كنتُ في لندن....
- كم أمضيتِ هناك؟
- منذ تزوجت داليا.. خمس سنوات تقريبًا.. كانت تحتاجني بجوارها في فترة حملها وبعد الولادة.. فارس.. زوجها.. طلب مني العمل معه في قسم الحسابات الخاص بشركته حتى يغريني بالبقاء معهم.
- ولماذا عدتِ إذًا؟
- عدتُ لرؤيتك.
تأملها متهكمًا قبل أن يلتفت في توتر إلى والدها الذي دلف إلى الغرفة قائلًا:
- تفضل يا أدهم بك.. السفرة جاهزة.
تقدم من المائدة في حركة آلية وكأنه يؤدي مهمة عمل يرغب في التخلص منها في أقرب فرصة ممكنة.. بدا مشدودًا رغم ترحابهم وحفاوتهم به وإن كانت طريقتهم هذه قد خففت بعضًا من ثقل مهمته.
كل الأطباق التي صفتها المرأة أمامه لم تجذب انتباهه بقدر ما جذب انتباهه ذلك الطبق الذي انتقت مكوناته بعناية ووضعته أمام زوجها بحب شديد وابتسامة واسعة وهي تربت على ظهره وكأنه طفلها البكر.. الرجل أيضًا لثم يدها في قبلة خاطفة.. هل يتصنعان الحب أمامه؟
حانت منه نظرة إلى إلهام التي شجعته بابتسامة واسعة قبل أن تحذو حذو والدتها وتعد له طبقًا خاصًا هي الأخرى.. وضعت الطبق أمامه قائلة:
- والدتي أمهر طاهية في العالم.. اسأل والدي إن كنتَ لا تصدقني.
نظر الرجل في زهو إلى زوجته قائلًا:
- تذوق واحكم بنفسك أدهم بك.
كان الطعام شهيًا بالفعل شجعه على التهام طبقه كاملًا.. اعترض عندما حاولت إلهام وضع المزيد من الطعام أمامه.. قال مبتسمًا:
- أشكرك.. لم يسبق لي أن تناولت كل هذا الكم من الطعام دفعة واحدة.
استدار إلى والدتها وأردف:
- سلمت يداك يا سيدتي.. طهيكِ رائع بالفعل.
- بالهناء والشفاء أدهم بك.. تفضل بالصالون لنتناول الشاي.
لم يكن الرجل سطحيًا أو لامباليًا.. كان مختلفًا تمامًا عن تلك الشخصية المستهترة التي كونها له أدهم في مخيلته.. حديثه الشيق ينم عن معرفة وثقافة لا بأس بها.. خفة الظل التي تغلب على حديثه لا تقلل من وقاره الذي يطل جليًا من حين لآخر.. ربما عدم تكلفه في الحديث كان نوعًا من الترحاب به.. كان واضحًا بأنه سعيد بزيارته.
ازداد اهتمام أدهم بالحديث عندما تطرق شيئًا فشيئًا عن العمل.. مازال العمل هو ملجأه وملاذه الأول والأخير.. أخبره الرجل بأن الوزارة تستورد الكثير من المعدات والماكينات الزراعية وقطع الغيار.. وعرض على أدهم المشاركة في المناقصات التي تقدمها الوزارة من حين لآخر.. رحب أدهم بالفكرة بلا تردد.. ولو اضطره الأمر إلى الخروج من هذه الصفقات بلا مكسب مادي.. يكفيه فخرًا بأنه سيقدم خدمة لوطنه.
حانت منه نظرة إلى إلهام التي بدت ساخطة وهي تحول عينيها عن التلفاز على فترات متفاوتة لترمقه في غضب.. ولكنها رغم هذا لم تحاول أن تقاطع حديثهما ولو مرة واحدة.. احترامها الشديد لوالدها أعاد إليه الحيرة بشأنها من جديد.. هل هي تحترم والدها وتعشقه بالفعل أم أنها تخشاه وتتجنب غضبه؟ هل يعلم والدها بما تفعله..؟ وإن كان يعلم.. هل يرضى بطيشها الذي لا حد له؟
قطع الرجل حديثه فجأة وهو يشير إلى إلهام قائلًا:
- حبيبتي.. يمكنكِ أن تحلي محل والدتك حتى تستريح هي قليلًا.
نهضت إلهام وغمزت له مبتسمة بينما تعلقت عينا أدهم بالرجل في قلق.. أتراه قد لاحظ نظرات إلهام الجريئة إليه فعمد على عدم بقائها بقربه؟ هل قامت إلهام بإحدى حركاتها المجنونة ولاحظها والدها بدلًا منه..؟
مجنونة إلهام.. ماذا سيظن به الرجل الآن..؟ قد يتهمه بأنه من يشجعها على تهورها وطيشها.
تنحنح أدهم في حرج بينما قال الرجل في لامبالاة:
- سلوى تعشق هذه الأغنية.. لها معنا ذكريات حلوة.. من المؤسف أنهم لا يعرضونها كثيرًا في التلفاز.
حدق به أدهم كمن ينظر إلى معتوه.. يبدو أن الجنون موروث في هذه العائلة.. وإلا فمن أين أتت به إلهام؟
ابتسم ساخرًا عندما أقبلت المرأة على عجل وهي تتطلع إلى زوجها بابتسامة واسعة استقبلها بمثلها وهو ينهض ليتناول منها الصينية ويضعها فوق الطاولة الصغيرة التي تتوسط الغرفة قبل أن يهمس إلى إلهام التي أتت في إثرها تحمل صينية أخرى رصت فوقها بعض أطباق الحلوى.
- اعتني بضيفك.
رغم كل السخرية والاستنكار والجنون الذي شعر به.. كان هناك شيء ما في هذه الأسرة.. شيء لطالما سمع عنه ولكنه لم يجربه يومًا.. بل لم يلمسه بهذا القرب بين كل العائلات التي عرفها على مدار عمره منذ كان صغيرًا وحتى هذه اللحظة.. شيء ظنه أسطورة وخيال.. الدفء الأسري.
لينك الحلقة الحادية عشر
https://bit.ly/36maEL8