رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة الحادية عشر
الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.
حلقة 11
- أدهم بك..!
ظل منكبًا فوق مكتبه بلا حراك وكأنه لم يسمعها.. كررت عبارتها في قلق حتى رفع رأسًا منهكًا وسألها في نبرة جافة:
- ماذا تريدين؟
- سوف أرحل.
همس في جزع بدا لها غريبًا:
- هل عادت تهاني؟
تأملته في مزيد من القلق قائلة:
- تهاني..! إجازتها لم تنتهِ بعد..!
أغمض عينيه وتنهد صامتًا.. فأردفت:
- الساعة تخطت الثالثة والنصف و.......
ضغط رأسه بكفيه في ألم قبل أن يهز رأسه موافقًا.. فعادت تهمس:
- هل أنتَ بخير؟
أجابها دون أن ينظر إليها:
- يمكنكِ الانصراف.
تحركت في خطوات مترددة وما لبثت أن استدارت إليه قائلة:
- أنتَ لستَ على ما يرام.
صاح في عصبية:
- أنا لستُ طفلًا.. فلا تتظاهري بأن أمري يعنيكِ.
- أمرك يعنيني بالفعل.
- لهذا تتطلعين للخلاص مني والعمل في مكتب حامد.. أنا أعلم كل شيء عن علاقتكما رغم العداوة التي تظاهرتِ بها في لقائكما الأول.. هنا في مكتبي.
تأملته في حنين هامسة:
- أدهم..!
- اسمي أدهم بك.. مخصوم منكِ ثلاثة أيام حتى تعتادي نطقه بطريقة صحيحة في المرة القادمة.. والآن هيا اذهبي وكفاكِ تمثيلًا لن يغير من الوضع شيئًا.
كيف تذهب وتتركه لغيرة تأكله أكلًا..؟
كم من الوقت مضى وهي تتحاشاه أملًا في نسيانه بلا جدوى..؟! غلظته في التعامل معها لم تنجح في نزعه من قلبها بلا رجعة.. قسوته وسخريته وحتى اهتمامه بتلك الدُمية المدعوة صافي.. كل هذا لم يزدها إلا قربًا منه وعشقًا له..!
تأملها في رجاء واستسلام وهي تقترب منه كالمخمورة لتمسح بكفيها شعره وجبهته هامسة:
- ما الذي يؤلمك؟
أجابها ساخرًا:
- للأسف لستُ مريضًا.. ليتني كنتُ.. لربما قررتِ تدليلي مثلما فعلتِ مع عبد العظيم.
تنهدت حائرة بين أفكار مظلمة وعواطف كالطوفان قائلة:
- أنتَ فظ غليظ لا تستحق.. ولكنني لا أستطيع رؤية معاناتك.
غمغم في مزيج من السخرية والمرارة:
- زيديني تدليلًا إذًا حتى تنتزعي معاناتي.
كانت تعلم بأنها قد فقدت عقلها تمامًا.. فكرته السيئة عنها سوف تزداد سوءًا.. سوف يكرهها ويعنفها ويعود فيتهمها بالوقاحة والفجور.. سوف تتألم من قسوته ما إن تنتهى من تدليله كما يرغب.. ستنزع معاناته ليقذفها بها في أقرب فرصة تتاح له..
وكل هذا لم يمنعها من الجلوس فوق ركبته وضمه إليها في حنين وحنان استكان لهما طويلًا حتى كاد أن ينعس فوق صدرها وهي تداعب شعره وتقبل جبهته وكأنه وليدها لا حبيبها فقط.
همست أخيرًا:
- هل أنتَ أفضل الآن؟
ازداد التصاقًا بها ولم يعلق.. ابتسمت وهي تتأمله في عشق ممتزج إحباطًا ويأسًا.. لمَ لا يتوقف الزمن للأبد هنا..؟ ليتَ هذه اللحظة لا تنتهي وحبيبها كالطفل بين ذراعيها.. في حضنها الدنيا وما فيها.
لكن لا مفر من التحرر الآن قبل أن يحررها هو بقسوة ويتهمها بإغوائه من جديد.. أغمضت عينيها وطبعت فوق جبينه قبلة طويلة الهبته قبل أن تزيحه عنها في لطف قائلة:
- أدهم بك.. يجب أن أذهب الآن.
تشبث بكفيها قائلًا:
- لماذا؟
- والداي ينتظراني على الغداء.. سوف أتأخر عليهما.
تطلع في عينيها بريبة قائلًا:
- والديك..؟!
عضت على شفتيها قائلة:
- نعم.. هل تحب أن تأتي معي لتتحقق بنفسك؟
ترك يديها فابتعدت ساخطة.. عاد يستوقفها:
- إلهام....
استدارت إليه في ترقب فأردف في مزيد من الشك:
- هل سبق ودللتِ حامد كما دللتني الآن؟
تنهدت في مرارة قائلة:
- كلا.. لم تتح لي الفرصة بعد.
- أتقصدين بأنكِ ستفعلينها عندما تعملين بمكتبه؟
شعرت برغبة في صفعه ولكنها تناولت حقيبتها وذهبت غير مبالية بندائه لها.. هذا المعقد.. كان يجب ان تتركه يستعر حتى ينصهر وتتخلص منه..!
***
استقبلها في اليوم التالي وكأن شيئًا لم يكن.. وكأنه لا يتذكر ما حدث بينهما أمس ..!
وقعَ على الأوراق التي قدمتها له بطريقة روتينية.. عجبًا.. فهو بالكاد ألقى على الأوراق نظرة عابرة.. لم يكن هذا حاله من قبل.. أين حرصه الذي لازمه طويلًا..؟!
- هل هناك شيء آخر؟
- كلا.
تحاشاها بعدها اليوم كله حتى حان موعد الانصراف.. عادت ذكرى أمس لتطاردها عندما همت بالدخول إلى مكتبه لتستأذن منه.. ماذا لو ضعفت أمامه من جديد.. إن كانت لا تحتمل رؤيته حزينًا يتألم.. فعباراته الرصاصية تؤرقها الليل كله.
يا لحظها العاثر الذي اوقعها في عشق مجنون مثله دونًا عن سائر الرجال..! لن تدخل إلى مكتبه.. سوف تكتفي بإخباره آليًا.. ولكنه ما كاد يسمع صوتها حتى صاح بها:
- تعالي إلى مكتبي.
أخذت نفَسًا عميقًا قبل أن تغامر وتدخل إليه.. استعدت للمقاومة والدفاع والهجوم أيضًا إن استدعى الأمر هذا.. لن تستسلم لضعفها هذه المرة.. عليها أن تحتفظ في مخيلتها دائمًا بشكوكه وثورته بعد كل لحظة حميمية تجمعها معه.
كان قد استند بذراعه فوق الجدار ووقف يحدق من النافذة.. وقفت تتأمله وقد لانت ملامحها.. وسائل دفاعها وهجومها سقطت واحدة تلو أخرى.. كل سدودها وحصونها انهارت وتبخرت..!
همست في حنين:
- أمرك أدهم بك.
كاد يبتسم لها قبل أن يتحكم في انفعالاته قائلًا:
- أنا على موعد اليوم مع أحد أهم رجال الأعمال.. ليس في مصر وحدها بل في أوربا أيضًا.. عشاء عمل.
تمتمت بصدق:
- أتمنى لكَ التوفيق.
- هناك مشكلة تؤرقني.
نظرت إليه في تساؤل ممزوج بالقلق فأردف:
- سيأتي الرجل مع رفيقته وأنا.......
أطبقت شفتيها بعنف حتى لا تتسرع وتعرض نفسها عليه.. إن كان يريدها أن ترافقه فهو سيطلب منها هذا عاجلًا أم آجلًا.. ربما بقليل من التحكم في انفعالاتها ومشاعرها تتغير نظرته السوداوية عنها.
عاد يغمغم في نبرة حائرة:
- أخشى أن كل من أعرفهن يعملن في نفس المجال.. ولا أحب أن تتسرب مصادري الخاصة.
- وماذا عن صافي هانم؟
- لا تنسي ان والدها منافس قوي لي.
- ألا تثق بها؟
- أنا لا أثق بأحد.. في مجال عملنا الثقة قد تكلفنا الكثير.
- ماذا كنتَ تفعل في المرات السابقة؟
- كنتُ أستعين بالآنسة تهاني.. ولكنني أخشى أن تمنعها ظروفها هذه المرة من مرافقتي.
شعرت بالشفقة نحوه.. كيف لرجل مثله أن يعاني هكذا للعثور على رفيقة تشاركه سهرة عمل..؟!
آهٍ.. لو يتركها تعبر إلى عالمه لتؤنس وحدته..!
سألها فجأة:
- هل تأتين معي؟
نظرت في عينيه قائلة:
- ألا تخشى أن أنقل مصادرك الخاصة إلى حامد بك؟
- كلا...
- هل تثق بي حقًا أم أنك لا تجد بديلًا لي؟
- ربما الاثنان معًا.
برقت عيناها في سعادة فابتسم قائلًا:
- لم تجيبي على سؤالي بعد.. هل ستأتين معي؟
هزت رأسها موافقة فأردف:
- ربما نتأخر قليلًا.. أخشى أن ينزعج والدك.
هتفت في لهفة:
- كلا.. أبي لن يعترض أبدًا فهو............
قطعت عبارتها وعضت على شفتيها وهي ترى وجهه الذي تجهم فجأة قبل أن يغمغم:
- هكذا إذًا.. حسنًا.. اتركي لي عنوانك وسوف انتظرك بسيارتي في الثامنة تمامًا.
***
دقت عقارب الساعة الخامسة مساءً عندما وصلت إلهام إلى منزلها .. قبلت أمها في سعادة قائلة:
- كيف حالك يا أجمل أم في الكون كله..؟ لماذا تجلسين بمفردك..؟ أين أبى؟
- يستريح قليلًا في غرفته.. لماذا تأخرتِ هكذا.. انتظرناك طويلًا على الغداء؟
ابتسمت قائلة:
- عذرًا يا أمي.. لقد ذهبتُ إلى مصفف الشعر.. كان يجب أن أتصل بك أولًا.. ولكن..... ما رأيك في تسريحتي؟
- جميلة دائمًا.. ولكن ما المناسبة؟
- أنا مدعوة إلى عشاء عمل بصحبة أدهم بك؟
- وكل هذه السعادة من أجل عشاء عمل مع أدهم بك..؟! أليس هذا الرجل هو نفس الرجل الذي أرغمك على العمل في مكتبه؟
- لقد أصبح أكثر لطفًا.
حدقت بها والدتها مبتسمة فأردفت هائمة:
- فتيات مصر كلهن يحلمن بعشاء عمل مع أدهم.
- إلى هذا الحد؟
- وأكثر من هذا الحد.. أدهم .........
خانتها كلماتها ولم تجد ما يمكن أن تصفه به.. فارتبكت ملامحها وأسرعت إلى حجرتها قائلة:
- سأجهز نفسى حتى يأتي.
- ألن تتناولي طعامك أولًا؟ سوف أعد لكِ الغداء
- فليكن شطائر إذًا ليس هناك وقت.
- متى سيأتي؟
- في الثامنة.
- في الثامنة وليس هناك وقت؟!
- شطائر يا أمي.
***
أعلنت الساعة الثامنة تمامًا عندما أقبلت والدتها من الشرفة التي تسمرت بها منذ السابعة وهتفت متهللة:
- أتى يا إلهام.. أليست هذه السيارة السوداء الفارهة ملكًا له؟
أسرعت إلهام إلى الشرفة وما لبثت أن عادت لتقبل والدتها قائلة:
- نعم يا أمي أنه هو.. إلى اللقاء.
استوقفها والدها معترضًا:
- ما الذي حدث لكما أنتما الاثنتان..؟ على أدهم بك هذا أن يصعد إلى هنا ليأخذك مني.. ثم يعيدك مرة أخرى بعد انتهاء السهرة.
- أبي.. ليس هناك وقت.
كاد والدها أن يثور موبخًا لولا نظرات زوجته المستنكرة التي لا تخلو من الرجاء بالتريث.. زفر بعد صمت قائلًا:
- اخبريه في المرة القادمة.. إن كان هناك مرة قادمة.. بأن هناك أصول يجب إتباعها.. أولها أن يستأذن ولي أمرك.
- حسنًا يا أبي سأفعل.
أسرعت لتغادر الشقة ولكنه استوقفها مرة أخرى:
- إلهام.. تريثي قليلًا في انفعالاتك.. تبدين متهافتة كثيرًا على هذه الدعوة.. كوني أكثر اتزانًا حتى لا تفقدي بريقكِ.
نظرت إلى والدتها التي ابتسمت لها مشجعة.. هزت رأسها لوالدها موافقة قبل أن تمنحهما قبلاتها الطائرة وتغادر المسكن.
ما إن أغلقت الباب خلفها حتى التفتت والدتها إلى والدها وهتفت ساخطة:
- كنتَ جافًا معها على عكس عادتك.. ألم تلحظ أنها معجبة كثيرًا بهذا الرجل..؟ إحساسي يُخبرني بأنها وجدت أخيرًا الرجل المناسب.
- نعم.. لاحظت أنها متيمة به.. وهذا ما يزعجني.. ويجب أن يزعجكِ أنتِ أيضًا.
- لماذا؟
- أدهم الشربيني هذا من أكبر رجال الأعمال في مصر وأكثرهم غموضًا على الإطلاق؟
- وما المشكلة؟
- تتساءلين ما المشكلة؟ ألم يخطر ببالك قط أن هذا الرجل قد يكون في مثل عُمري.. بل وربما يفوقني عُمرًا..؟
تأوهت المرأة في صدمة قائلة:
- يا إلهي لم أفكر في هذا الأمر أبدًا.. ولكن ما الذي سيدعو إلهام للانبهار بشخص كهذا؟
***
تأملها أدهم شاردًا وهي تتقدم من سيارته بابتسامة واسعة.. فتح لها الباب الأمامي لتجلس بجواره فقالت في دهشة:
- أين سائقك؟
- أفضل ان أقودها بنفسي أحيانًا.
- ألا تثق به هو أيضًا؟
تحرك بالسيارة صامتًا فضحكت قائلة:
- أكاد أصاب بالغرور لأنكَ تثق بي.
ابتسم في عذوبة فأردفت في نشوة:
- يا الله.. وتتصدق أيضًا..! يبدو أنني أكثر أهل الأرض حظًا هذه الليلة؟
بادلها ضحكاتها في مرح حتى كادت تفقد الوعي من فرط سعادتها به.. تذوب فيه عشقًا.. لو أن الأمر بيدها.. لسحبته الآن بالقوة وعقدت عليه قرانها رغمًا عنه.. عليه أن يكون أكثر إنصافًا.. ليسَ من العدل أن يزداد استبدادًا وسحرًا في الوقت ذاته..!
ما إن غادرا السيارة حتى تأبطت ذراعه قبل أن يطلب منها فاستدار يحدق فيها ساخطًا بينما ابتسمت هي في لامبالاة قائلة:
- ألم تخبرني أنكَ بحاجة لامرأة بجوارك؟
- كان يجب أن تكوني أكثر حياءً وتنتظري حتى أطلب هذا منكِ.
- لريثما تفكر وتقرر وتتجرأ وتتنازل وتطلب مني أن أتأبط ذراعك.. سنكون قد دخلنا الفندق كرجلين خرجا للتو من معركة.
ابتسم مستنكرًا.. مجنونة ولكنها على حق هذه المرة.. تستحق القتل أحيانًا ولكنها المرأة الوحيدة التي نجحت في اختراق أعماقه وفرضت سيطرتها فيها بطريقة مرعبة.. حاجته إليها تفزعه.. الأمان الذي يشعر به معها يصيبه بالتمرد على كل معتقداته.. سعادته بوجودها تغريه بالمزيد من الجنون.. رغم اختلافهما الدائم واعتراضه على كل ما تفعله.. تظل الوحيدة التي يتصرف معها على طبيعته وبلا تكلف وكأنها جزء منه..!
الموسيقى الرائعة زادتها رومانسية وهيامًا.. ليته يدعوها للرقص الآن على نغمات هذا اللحن الذي لطالما عشقته.. إن كان ضيفه لم يصل بعد فلماذا لم يفعل؟
زفرت بضيق قائلة:
- ها أنا أنتظر.. وأخشى أن أموت وأنا أنتظر.
هز رأسه متسائلًا فأردفت:
- إن كنتَ لا تجيد الرقص يمكنني أن أعلمك.
- إلهام جئنا إلى هنا في مهمة محددة.
- وما المشكلة؟
- جئنا لنعمل لا لنرقص.
- وما الذي يمنع من أن نعمل ونرقص أيضًا؟
صمت ولم يعلق فتابعت ساخطة:
- ليتَ كل من تحسدني الآن تعلم كم أنتَ رفيق ممل.
- كفى استفزازًا.
- راقصني إذًا.
- وماذا لو وصل الضيوف؟
- لم أطلب منك أن تراقصني فوق القمر.
تطلع إليها ساخطًا وما لبث أن جذب يدها في عنف وأنهضها قائلًا:
- أنتِ أكثر من قابلت إزعاجًا.
أحاطت عنقه في نعومة أفقدته ما تبقى له من وعي.. أما كان يكفيه عطرها الذي خدره ولا هذا السحر الذي ينساب آسرًا في بريق عينيها..!
أسندت رأسها على صدره فابتلع ريقه قائلًا:
- إلهام..!
همست هائمة:
- كنتُ أظن أن اللحن الذي تعزفه الفرقة هو الأفضل.. لكن اللحن الذي يعزفه قلبك أجمل كثيرًا.
تجولت عيناه تتأمل المحيطين به في قلق.. ماذا لو تعرف عليه أحدهم..؟ هذه المتهورة ستدمر سمعته بلا شك.
عجبًا.. وكأن كل من حوله أكثر منها تهورًا.. هم أيضًا بدوا كسكارى وهم يرقصون وكأنهم يسبحون في عالم آخر.. أكلهم عاشقون..؟!
عاشقون...؟!!!
تنفس الصعداء عندما توقفت الموسيقى أخيرًا.. فوجئ بضيفه ورفيقته يجلسان حول الطاولة.. كان الرجل ينظر إلى ساعته في توتر.. عدم وجود أدهم في انتظاره قد أزعجه.. هتف أدهم بها ساخطًا:
- هل أنت سعيدة الآن..؟ هذا ما كنتُ أخشاه.
- وما المشكلة..؟ تدلل قليلًا.. أم أنك لا تجيد الدلال إلا على قلبي المسكين؟
- إلهام..!
- لا تترك يدي.. سوف تزيد الأمر سوءًا.
- ألم أجد سوى مجنونة مثلك لأحضرها معي؟!
- بلى.. لم تجد.
ابتسم مرغمًا وهو يتقدم من ضيفه في خطوات ثابتة.. لم يكن يدري أن هذه الابتسامة غير المقصودة.. كانت سببًا في القضاء على التحفز والرهبة اللتين طالما عانى منهما في لقاءات سابقة جمعته بالرجل ذاته.. ابتسامة إلهام الواسعة كان لها مفعول السحر لا على الرجل وحده بل وعلى رفيقته أيضًا.
جاسر عبدالله.. بريطاني الجنسية من أصل عربي.. هذه المرأة ليست زوجته بل سكرتيرته الخاصة.. ربما كانا عاشقين رغم فارق السن الواضح بينهما.. أكان تشابه الأقدار التي جمعتهما الليلة معًا هي ما زادهم قربًا..؟!
قدم له جاسر عرضًا مُغريًا يتعلق بمجموعة من قطع غيار السيارات.. لم يستغرق نقاشهما وقتًا يذكر قبل أن ينتهيا من التوقيع على الأوراق الخاصة بالصفقة.. نظر أدهم إلى إلهام مبتسمًا...
كانت هذه أكثر الصفقات التي عقدها في حياته سلاسة وسرعة.. ولم يقتصر الأمر على الصفقة وحدها.. بل ما أسعده بالأكثر.. هي الصداقة التي بدت تلقي بظلالها بينه وبين هذا الرجل الذي يمثل كنزًا لكثيرين أولهم أدهم نفسه.
فتحت إلهام حقيبتها لتتناول منها منديلًا ورقيًا فسقط سهوًا أحمر الشفاه الذي أرسلته لها أختها مؤخرًا ضمن مجموعة مميزة من أدوات التجميل.. أمسكت مايا به مبتسمة قبل أن تتبادل مع رفيقها نظرات ذات مغزى.
بادلتها إلهام ابتسامتها قائلة:
- اعتبريه هدية مني إن كان يروق لكِ.
عادت مايا تبتسم قائلة:
- أشكرك.. أنا أيضًا أستخدم الماركة ذاتها.. لم أكن أدري أنها انتشرت في مصر.
- في الحقيقة هي تأتيني خصيصًا من لندن.
فتحت حقيبتها مرة أخرى لتخرج المجموعة كاملة والتي أحضرتها معها لتصلح بها من مظهرها عند الضرورة.
ضاقت عينا أدهم عندما سأل الرجل فجأة:
- ما مدى انتشار هذه الماركة في السوق المصرية؟
كانت معلومات ادهم عن مساحيق التجميل شبه منعدمة تقريبًا.. فهي خارج نطاق اهتمامه.
تولت إلهام الإجابة بدلًا منه:
- هذه الماركة متميزة بالفعل.. يكفي أنها تحتفظ بثباتها فترة طويلة مهما كانت حالة الطقس.. كما أن الوانها والعطور المستخدمة في صناعتها أكثر من رائعة.. ولكن المشكلة تكمن في أسعارها المرتفعة.. لذا فأن استخدامها هنا يقتصر على نساء الطبقة الراقية فقط.. ومعظمهن يجلبنها من الخارج كما أفعل أنا.. ولكن هذا لا يمنع من إمكانية انتشارها في مصر عن طريق المزيد من الدعاية.
اصغى اليها الرجل في اهتمام استشعر معه أدهم بوجود صفقة أخرى في الطريق.. صفقة لم تكن بالحسبان.. لكنه على يقين من ربحيتها ككل الصفقات التي أبرمها سابقًا مع هذا الرجل.
قال جاسر بعد فترة صمت:
- أدهم.. ما رأيكَ في أول توكيل لهذه الماركة في مصر؟
تأمله أدهم مفكرًا قبل أن يجيبه في نبرة هادئة لا تعكس أعماقه:
- معلوماتي في هذا المجال محدودة للغاية.. ولكن بناء على ما سمعته الآن.. فهذه الماركة تحتاج إلى دعاية ضخمة قد تكلفني كثيرًا من رأس المال.
- وماذا لو أغريتُ الشركة المنتجة لتمنحك سعرًا يضمن لكَ تكلفة الدعاية مع الاحتفاظ بقدر هائل من الأرباح؟
لم يكن أدهم في حاجة إلى المزيد من التفكير ليسارع بانتهاز الفرصة قبل ان يعثر ضيفه على مستثمر آخر.. احتكاره لهذه الماركة سيجعل في استطاعته تحديد السعر الذي يريده لها.. ومهما بدا السعر مرتفعًا فهو سيبقى أقل كثيرًا من سعرها بالعملة الصعبة.. رغم هذا فقد ظل صامتًا حتى تابع جاسر حديثه:
- أدهم.. نصيحتي لكَ.. كصديق هذه المرة بأن لا تتردد.
ابتسم أدهم قائلًا في هدوء لمعت له عينا إلهام:
- حسنًا.. سأعتبر هذه الصفقة عربون الصداقة بيننا.
لينك الحلقة العاشرة
https://bit.ly/2EHPvzU