رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة التاسعة
الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.
حلقة ٩
ها هو اسمها.. صافي الطحان.. وجدته في الصفحة الأولى من دفتر تهاني.. أمسكت سماعة الهاتف وطلبت الرقم في عصبية.. انتظرت قليلًا حتى بلغ مسامعها صوت ناعس هادئ النبرات.. زادت عصبيتها وبلغت ذروتها عندما استشعرت تلك اللهفة والسعادة التي غمرت صوت صافي وهي تخبرها برغبة أدهم في لقائها.. صوتها وحده كان إعلانًا صريحًا عن كونها متيمة به.. ومن الواضح أنه يعلم هذا جيدًا.
بالكاد ساعة قد مضت قبل أن تجدها أمامها.. كانت في بدايات العشرينات بيضاء البشرة.. رقيقة الملامح.. يتوج رأسها شعر أسود لامع طويل يزيدها أنوثة وجاذبية..
همست في نعومة ورقة:
- أدهم بك في انتظاري.
ظلت تحدق فيها بعض الوقت قبل أن تنهض مرتبكة لتقودها إلى مكتبه صامتة.. لم تسألها حتى عن اسمها.
نهض يصافحها بابتسامة عريضة وحرارة بدت لها مزيفة كتلك التي انبعثت منه عندما ضمها إلى صدره منذ أيام قليلة.. لماذا كرهت غمازتيه في هذه اللحظة بقدر ما عشقتهما سابقًا..؟
قالت غريمتها بصوت متيم يهيم شوقًا:
- أدهم... سعادتي بدعوتك لا تقلل من دهشتي لها.
اتسعت ابتسامته قائلًا:
- وصلتني مجموعة رائعة من أشهر العطور الفرنسية.
- أهذا ما ذكرك بي؟
اكتفى بنظرة جريئة وابتسامة خفيفة لم تغادر شفتيه.. أحنت صافي رأسها الذي تخضب احمرارًا لشدة الخجل وربما العشق.
هي أيضًا تخضب وجهها احمرارًا لكنه لم يكن خجلًا.. كان جنونًا وغضبًا.
ما الذي يجبرها على البقاء في مكتبه حتى الآن ومشاهدة هذه الدراما القاتلة..؟ لماذا لا يطردها هو ما دامت قدماها لا تطاوعانها على الذهاب وتركهما معًا..؟
ولكن إن كان يفعل هذا في وجودها فما الذي سيفعله حال ذهابها..؟ هل يمكن أن يضمها ويقبلها كما فعل معها..؟ وبمثل هذه اللهفة التي كان عليها؟
شوقه يومها لم يكن يقل عن شوقها إليه مهما حاول تجاهل الأمر وإنكاره..!
فتح الكرتونة التي أحضرها له الساعي منذ قليل ورص محتوياتها فوق مكتبه بالقرب من صافي قائلًا:
- اختاري ما شئتِ منها.
نظرت إليه بتردد فأردف بنبرة ناعمة لم تعتدها منه:
- يمكنك الاحتفاظ بها كلها إن شئتِ.
اتسعت ابتسامتها قائلة:
- اختر لي أنتَ العطر الذي تفضله.
ألقى نحو إلهام نظرة عابرة زادتها جنونًا.. وكأنه ينتقم منها..! ولكن لماذا وهي لم تعشق أحدًا في حياتها كما تعشقه؟
فقدت قدرتها على التحكم في انفعالاتها فهتفت في صافى:
- يمكنني أنا مساعدتك مادمتِ لا تستطيعين التمييز.
التفتت إليها صافي في حدة وكأنها تراها للمرة الأولى بينما صاح هو بها في لهجة جافة:
- أمازلتِ هنا..؟ عودي إلى مكتبك.
كان يتعمد إهانتها.. يتظاهر بأنه تفاجأ بوجودها.. وكأنه لم يكن ينظر إليها منذ قليل..!
همست بصوت عانت كثيرًا للتحكم في نبراته:
- أمرك أدهم بك.
تبعتها صافي بعينيها في ريبة حتى غادرت الغرفة واستمرت بعدها طويلًا تنظر للباب المغلق خلفها.. هو أيضًا لم يتفوه بكلمة واحدة حتى غمغمت صافي:
- من تكون هذه الفتاة؟
تصنع اللامبالاة قائلًا:
- صديقة مازن.. طلب مني تعيينها في مكتبي.
- عذرًا.. ولكنها تبدو وقحة جدًا.
ابتسم في تهكم قائلًا:
- دعكِ منها.. أمازلتِ تريدين مني اختيار عطر لكِ؟
هربت من عينيه وعضت على شفتيها وهي تهز رأسها موافقة.. تأمل ملامحها التي أكلها الخجل عن آخرها فلم يعد يميزها.. تقدم منها وبين يديه زجاجة من العطر قد نزع غطاءها.. عانى ليرفع رأسها التي التصقت بصدرها توترًا وخجلًا.. استنشقت بعضًا من الزجاجة التي قربها من أنفها وابتسمت راضية.
نعم.. صافي هي الزوجة التي يريدها.. رقيقة مهذبة ناعمة.. تسلم له إرادتها طواعية.. صافي ستجعل الحياة سلسة هادئة.. سوف تربي أطفاله على الخلق والفضيلة.. يكفي أنها لن تشاكسه ليل نهار كتلك النارية المجنونة التي لا تكف عن مجادلته كلما جمعهما حديث مشترك.. تلك الحمقاء الوقحة التي لا تتورع عن إشباع رغباتها البشعة مهما استنكرها من حولها..!
***
لم يكن الحال في منزلها أفضل.. تعرضت والدتها لأنفلونزا مفاجئة سقطت على إثرها طريحة الفراش.. والدها كان أكثرهم انزعاجًا.. فقد حصل على الترقية الأسبوع الماضي.. أصبح الآن مديرًا عامًا في وزارة الري .. كان يتمنى أن تشاركه زوجته عشاء العمل الفاخر الذي أعده زملاؤه له في أكبر فنادق القاهرة.. ولكن كيف وحالتها تزداد سوءًا ساعة بعد أخرى رغم الأدوية والمسكنات والكمادات التي لا يكف عن وضعها فوق جبهتها منذ الصباح..؟
همست زوجته بصوت واهن وأنفاس متقطعة:
- حبيبي.. اقبل اعتذاري عن هذا الذنب غير المقصود.. كم كنت أود أن أكون بجوارك في هذه المناسبة الرائعة ولكن ما باليد حيلة..؟!
قال محبطًا:
- لولا أن هذا العشاء أقيم خصيصًا لأجلي ما كنتُ ذهبتُ.
ربتت على كفه قائلة:
- تهنئتي القلبية يا زوجي الحبيب.. تمتع بوقتك وعندما تتحسن حالتي سأطالبك بتعويض في نفس الفندق.
- وكيف سأذهب بمفردي بينما كل منهم مع زوجته؟
هتفت سلوى في حماسة رغم وهنها:
- خذ معكَ إلهام.. ربما يتحسن مزاجها السيء.. منذ فترة وأنا أراها مهمومة شاردة.. يبدو أن العمل في هذه المؤسسة يزعجها بالفعل.
- أين هي الآن؟
- في غرفتها.
- وماذا عنكِ..؟ كيف نتركك بمفردك وأنت على هذه الحال؟
- أنا سوف أخلد للنوم الآن.. لا تشغل بالكَ بي.
جففت دموعها سريعًا وتصنعت ابتسامة باهتة لم تقنع والدها الذي دلف للتو إلى غرفتها.. راح يدقق النظر فيها طويلًا قبل أن يغمغم:
- لقد طرقتُ بابك ولكن يبدو أنكِ كنتِ شاردة.
انفرجت شفتاها لتقول شيئًا ولكنها عادت لتطبقهما من جديد بعد أن عجزت عن تنسيق كذبة مقبولة لا تثير ريبة والدها الذي جلس بجوارها على الفراش وأمسك يدها في حنان قائلًا:
- ماذا بكِ يا حبيبتي.. أمازلتِ تعانين من العمل في مؤسسة الشربيني؟
- أبدًا يا أبي.. بدأتُ أعتاد الأمر.
- صارحيني يا ابنتي.. ربما أمكنني مساعدتك؟
- مجرد روتين مزعج.. لم أعتده من قبل.
تنهد وهو يتأملها في شك قبل أن يقول:
- هيا ارتدي ملابسك إذًا.
- لماذا؟
- سنكسر الروتين الذي يزعجك.
- وماذا عن والدتي؟
- هي صاحبة الفكرة.
***
لم يكن أحد ليصدق أبدًا بأن هذا الشاب الهادئ الوديع.. هو ذاته أدهم الشربيني الذي تتبارى الصحف لالتقاط صورة حقيقة له بعد كل ما أثير حوله من حكايات أقرب للأساطير.
نظراته تتحرك في بطء وكأنها كاميرا رادار متخفية تسجل كل ما حوله من أحداث بالصوت والصورة.. بالكاد تنفرج شفتاه بكلمات مقتضبة من حين لآخر لتعلن عن مشاركته في الحوار مع هذا اللفيف الكبير من رجال الأعمال والذي لم يكن يتوقع هو شخصيًا أن يجتمع عندما قبل دعوتهم.
يبدو لامباليًا.. من يراه لا يمكن أن يصدق أبدًا أن رأسه يزدحم بعشرات الصفقات وأتى اليوم خصيصًا كي ينتهي منها.
ها هي صافي قد أقبلت تتأبط ذراع والدها.. على شفتيها ابتسامة واسعة تلاشت عندما تعثرت نظراتها بـ زينة الباجوري تجلس بجوار أدهم وتهمس في أذنيه بميوعة لم ترق لها.. ليتها بكرت قليلًا في المجيء.. لكانت هي من تجلس بجواره الآن.
إيمى زهران أيضًا جلست بجواره من الجهة الأخرى وتحاول جذب انتباهه باستماتة.. صوتها كاد يغطى على كل الأصوات الأخرى بما فيها أصوات الرجال لا النساء فقط.. عيناها تسمرتا فوق وجهه في ولع مفضوح.
ولكنه.. رغم الصخب من حوله.. مازال يسمع رنين ضحكاتها المرحة في كل الأصوات.. وكأنها الوحيدة التي تعرف كيف تضحك..!
كل شعر ناري يخطفه إليها خطفًا.. لم يستطع أن يطردها من أعماقه بعد.. محاولاته كلها فشلت.
اهتمامهم الزائد به وتدليلهم المفرط له زاده سخطًا بدلًا من أن يفرحه.. كان من المفترض أن هذا عشاء عمل يحاول من خلاله الترويج للبضائع التي امتلأت بها مخازنه.. عله يُفسح مكانًا للبضائع الجديدة التي ستصل خلال أيام قليلة.. لماذا أحضر كل منهم ابنته معه وكأنها دعوة خاصة لعشاء عائلي حميمى..؟
لقد وقع اختياره على صافي الطحان وانتهى الأمر.. ولكن ربما ليس من الصواب أن يعلن عن هذا الآن.. فليترك لهم الأمل في الإيقاع به حتى يحقق هو أمله في عقد صفقات ناجحة معهم.
ساعدته الكميات الكبيرة التي يستوردها على تقديم سعر منافس قوي.. أقل كثيرًا من الأسعار المتداولة في السوق مع الاحتفاظ بقدر لا بأس به من الربح.
لم يمض وقت يذكر حتى تمكن من بيع معظم الكميات الموجودة لديه إن لم يكن كلها.. كان محظوظًا بالفعل.. من الجيد أنه لم يرفض دعوتهم له اليوم كما اعتاد أن يفعل سابقًا.
بدأ يشعر بالملل ويفكر في طريقة لبقة للهرب من صحبتهم عندما اقترب منه حامد وهمس في أذنيه:
- أدهم.. أليست هذه الفتاة النارية هي بعينها التي رأيتها في مكتبك منذ أيام قليلة؟
استدار أدهم في حدة ليحدق إلى حيث أشار برأسه.. إنها هي بالفعل.. تبدو هائمة وهي تستمع لهذا الخمسيني المتصابي الذى يبادلها نظراتها العاشقة وعلى شفتيه ابتسامة واسعة.. ترى من يكون هذا الرجل..؟ كان واضحًا أنه المحور الرئيسي لهذه الجلسة.. كيف وأين ومتى تعرفت عليه..؟
هتف به حامد بصبر نافد:
- أدهم.. فيما تُحدق كل هذا الوقت..؟! أنا على يقين من أنها هي بعينها.
استدار ساخطًا وتصنع البلاهة قائلًا:
- لست متأكدًا بعد.. شكلها مختلف.
- كيف هذا..؟ أنا على يقين بأنها هي.. هى تمامًا كما تخيلتها أنا بدون زيك المدرسي الذى تفرضه عليها.
جاهد ليظهر هادئًا بينما أردف حامد في شماتة:
- أتمنى لكَ حظًا أوفر في المرة القادمة يا صديقي.. يبدو أنها تفضل الناضجين أمثالي.. أنظر كيف تحيط عنقه بذراعيها؟
أشار حامد إلى نفسه وعاد يقول معاتبًا:
- ألم يكن صديقكَ أولى بهذه الرومانسية..؟
زفر أدهم بضيق ولم يعلق.. فأردف حامد مبتسمًا:
- ولكن لا بأس.. الفرصة لم تزل سانحة.. لن يهدأ لي بال حتى أصل إليها وأجرب طبعها الناري.
راح يضحك لنفسه بصوت مرتفع زاد أدهم جنونًا وهو يقاوم بصعوبة تلك الرغبة الملحة التي تدفعه دفعًا للتلصص عليها.. وكأنه في حاجة إلى المزيد من الدلائل على فجورها ووقاحتها..!
اقترب منه أحد رجاله وهمس له بشيء جعله يتمتم بضيق:
- كيف عرفوا بالأمر؟
- لستُ أدري يا سيدي.. ولكنهم على أبواب الفندق.
نهض بلا مقدمات واختفى من بينهم.. تتبعته صافي بنظراتها ظنًا منها بأنه ربما ذهب لدورة المياه كما ظن غيرها.. ولكنها شعرت بصدمة عندما وجدته يغادر الفندق فجأة.
انطلق يهبط الدرج عدوًا ليستقل سيارته ويهرب من المكان.. ابتسم لنفسه وهو يتذكر الصحفي الذى أمسك بالكاميرا وكاد أن يصطدم به عندما عبر بوابة الفندق مسرعًا في اللحظة ذاتها التي كان هو يغادره فيها.
نظرت إلهام في دهشة إلى الصحفي الذي اقترب من طاولتهم مبتسمًا وراح يلتقط لهم مئات الصور كان لها ولوالدها النصيب الأكبر منها.. تطلعوا إلى بعضهم البعض في تساؤل.. ترى هل أخبر أحدهم الصحافة بالأمر..؟ ومن هو صاحب هذه اللفتة الرائعة؟
هتف والدها في تأثر:
- شكرًا لكم يا أعزائي.. ولكن الأمر لم يكن يستدعي كل هذه الضجة.. الصحافة أيضًا.. هذا كثير..!
نظر زملاؤه بعضهم لبعض في حيرة.. هناك التباس ما في هذا الأمر.. فكرة إبلاغ الصحافة لم تخطر ببالهم من الأساس فكيف علم رجالها؟!
لم يمض وقت طويل حتى ارتفعت ضحكات هيستيرية من مائدة على بعد خطوات منهم.. تضاعفت دهشتهم وهم يحدقون في هؤلاء الرجال الذين تخلوا عن وقارهم فجأة وراحوا يضحكون بهذه الطريقة الصبيانية الملفتة.. بينهم الكثير من الرجال الذين استطاع والدها تحديد هويتهم بدقة.. كانوا على قدر كبير من الشهرة والثراء.. هى أيضًا تعرفت على بعضهم.. ممن يأتون إلى مكتب أدهم لعقد صفقات معه.. انقبض قلبها في عنف.. أتراه هنا الآن؟
تجولت عيناها فيهم كالمحمومة تبحث عنه ولكنه لم يكن بينهم.. ها هي دميته الجميلة تجلس هناك وعلى شفتيها ابتسامة تشبهها.. بلا نكهة خاصة.. رفعت رأسها في كبرياء عندما غمز لها حامد مبتسمًا.. الوقح الذي كان يتمعن في ساقيها ذلك اليوم..
أشاحت بوجهها عنه غير مبالية.. ولكن يبدو أن الرجل لم ييأس بل نهض واقترب من طاولتهم وطلب منها مشاركته في الرقصة التي بدأت للتو.. تأمله والداها في دهشة قبل أن يترك لها حرية الاختيار كعادته.
قالت في هدوء تقدم الرجل لوالدها:
- حامد بك.. أحد عملاء مؤسسة الشربيني يا أبي.
هز والدها رأسه متفهمًا قبل أن يصافح حامد الذي يبدو أنه فوجئ بالأمر قبل أن يغمغم مبتسمًا :
- أنا سعيد بمعرفتك يا سيدي.
لم يكف حامد عن الضحك وهو يراقصها.. نظراتها النارية لم تخفف من وقاحته واستفزازه لها بحركاته الصبيانية.
- ما رأيك في العمل معي؟
- وماذا عن أدهم بك؟
- أدهم كالجن.. لا تحملي همه.
ابتسمت ولم تعلق فأردف:
- ألم تري كيف اختفى الليلة قبل أن يصل الصحفيين إليه؟
لم تُخف صدمتها وهي تغمغم:
- أدهم.. أدهم بك كان هنا الليلة؟!
- واختفى كالشبح بعد أن تخلص من كل السلع الراكدة في مخازنه.. لم يكن تسلله من الفندق مفاجأة للصحفيين فقط.. بل كانت مفاجأة لنا جميعًا.
- كل هؤلاء الصحفيين كانوا لأجله إذًا..!
- نعم.. يبدو أن هناك أنباء تسربت عن وجوده في الفندق الليلة.. ولكنه علم بالأمر في الوقت المناسب كعادته.
هز رأسه وأكمل ساخرًا:
- عجيبة هذه الدنيا..! تبسط ذراعيها دائمًا لمن يدير لها ظهره.. تخيلي.. كل وسائل الإعلام تسعى خلف أدهم وهو يسعى للهرب منها.. مع أن جميعنا نسعى إليها من حين لآخر.
صمتت شاردة.. ترى هل رآها أدهم..؟ ما الذي كانت تفعله عندما رآها..؟ وماذا سيظن بها هذه المرة؟
عُقَده لم تعد خافية عليها.. فهو أكثر من رأت تزمتًا وجنونًا وتفسيرًا شاذًا لكل أفعالها.
- إلهام.. أين ذهبتِ؟
تصنعت ابتسامة قائلة:
- انا فقط أنصت إليكَ.
- محظوظ أدهم.
- لماذا..؟ لأن الصحافة تطارده؟
ضحك وقال يغازلها:
- يكفي كونكِ تعملين في مكتبه لأحسده.
بادلته ضحكاته في مرح قائلة:
- إلى هذا الحد؟!
- وأكثر من هذا الحد.. أنتِ تدفنين نفسك بالعمل مع هذا الفظ المغفل.
ضاقت عيناها مستنكرة فأردف:
- تخيلي أنه لم يتعرف عليك عندما أعلمته بوجودكِ.. رغم كونه ظل يحدق فيكِ زمنًا.
ابتلعت ريقها في عصبية لقد رآها بالفعل.. وهل حقًا لم يتعرف عليها أم أنه تصنع البلاهة كعادته كلما أراد الهرب من موقف يزعجه؟
عاد حامد يقول ساخرًا:
- كم مضى لكِ بالعمل في مكتبه؟
- ثلاثة أشهر تقريبًا.
- هل صدقت إذًا..؟ أدهم ليس له في النساء..عندما يتعلق الأمر بهن يكون أكثرنا غُشمًا وغباءً.
صمتت قليلًا قبل أن تسأله في فضول:
- وماذا عن صافي الطحان.. يبدو لي أنه ميال إليها؟
ظهرت الدهشة فوق ملامح حامد وهو يغمغم:
- صافي الطحان..؟!
- نعم.. يستقبلها في مكتبه.. وهي أيضًا تبدو متيمة به.
- من الطبيعي أن تتيم هي به.
أشار إلى الطاولة التى تجمعهم وأردف:
- انظرى.. كل هؤلاء الفتيات.. أتى بهن أباءهن خصيصًا من أجل أدهم.. فهو بالنسبة لمعظم رجال الأعمال وبناتهم زوج لن يتكرر.. كنز بكل ما في الكلمة من مَعنى.
- أكل هذا من أجل ثروته؟
- كلا بالطبع.. بالإضافة إلى كون أدهم شاب وسيم ثرى موفور الصحة.. فهو مشهود له بالسمعة الطيبة والخلق الرفيع.. يكفيه فخرًا كونه لا يدخن ولا يشرب الخمر.. عكس ما هو سائد في عالم رجال الأعمال.. أما عن تجاربه مع النساء فتكاد تكون منعدمة.
قالت تستدرجه في الحديث ليكشف لها عما يعرفه:
- لكل قاعدة شواذ.. ربما صافي شيء آخر بالنسبة له.
- على أية حال.. صافي الطحان كالسلعة المعمرة.
- ماذا تعني؟
صدمها قائلًا:
- إن كان يتقرب منها حاليًا.. فهذا يعني أنه قد بدأ يفكر جديًا في الزواج لإنجاب ولي العهد.
غمغمت بضيق:
- زواج.. وماذا عن الحب؟
قهقه حامد قائلًا:
- الحب.. الحب كاللعنة بالنسبة لأدهم.. مُحال أن يمكنه من نفسه.. أدهم كالآلة لا قلب له ولا مشاعر .. حاسوب الكتروني كل مخرجاته تعتمد على الأرقام والعمليات الحسابية.
هل ما تسمعه الآن يمكن أن يكون حقيقة..؟ هل ألقت بقلبها بين الصخور بالفعل..؟ ألن يتزوج أدهم سوى بهذه الطريقة الحسابية البغيضة؟
ابتسمت في ارتباك قائلة:
- أرى أنكَ تبالغ بحكمك هذا.
- تقولين هذا لأنكِ لا تعرفين شيئًا عن حياته الخاصة.. ولا كيف كانت طفولته وصباه.. أدهم عانى كثيرًا.
- لقد أثرت فضولي حامد بك.. كُلي آذان صاغية.
أشار لوالدها قائلًا:
- ليس الآن.. والدك يستعجلنا.
- متى إذًا؟
- اختاري أنتِ الوقت والمكان الذي يناسبك.
كان الفضول يقتلها لمعرفة كل ما يتعلق به.. كادت أن تهتف في حامد لهفة "أخبرني الآن.. هنا في هذا الفندق.. حيث نرقص".
ولكنها في النهاية تصنعت ابتسامة قائلة:
- صعب جدًا حامد بك.. ليس لدي وقت.
- ماذا عن الغد؟
- سأكون في مكتب الشربيني.
- كوني في مكتبي أنا.. دعكِ منه.
- سوف يفصلني.
- هذا ما أريده.
ضحكت في غنج ولم تعلق.. فعاد يلح عليها:
- ما رأيك في تناول العشاء معي هنا غدًا؟
- سوف يتأخر الوقت بنا.. لن يوافق والدي.
- نجعلها غداء بدلًا من عشاء.
- وماذا عن مواعيد المكتب؟
- استأذني منه ساعة مبكرة.. وسوف أنتظرك بسيارتي أمام بوابة الخروج الرئيسية.
تاهت في صراع ما بين القبول والرفض.. ما بين فضولها وحيائها.. فهي لا تنوي إقامة علاقات خاصة مع زملائه من رجال الأعمال.. ماذا سيظن بها أدهم لو علم بالأمر مصادفة؟ ألا يكفي أحكامه الجائرة عليها لمواقف طالما كانت للدعابة لا أكثر..؟!
عاد حامد يحثها على القبول:
- لا تترددي يا إلهام.. أعدكِ بأنك لن تندمي.. سأجعله يومًا مميزًا جدًا في حياتك.
لم يكن إلحاحه سببًا في قبولها لدعوته بقدر ما كان فضولها حافزًا قويًا لها.. كانت في حاجة ماسة لمعرفة كل شيء عنه.. لا شك في أن هناك شيء ما بماضيه له علاقة قوية بكل ما تعانيه هي من عنف وقسوة لا مبرر لهما.
انتظروا تكملة الرواية أحبائي..
لينك الحلقة الثامنة
https://bit.ly/30aD2MC