رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة السابعة

الأربعاء 23 سبتمبر, 2020

الحلقة السابعة من رواية لماذا أنتِ؟ .. الرواية للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في عالم رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.

لم تترك لها تهاني الفرصة كاملة للسيطرة على ملامحها الثائرة وهي تعلن على الملأ في شماتة:
- كان أدهم بك رحومًا بكِ عندما اكتفى بخصم أسبوع واحد من راتبك.. عليكِ إظهار المزيد من الاحترام في المرة القادمة.
صرخت بها في عصبية:
- كفى حديثًا.. انتهى الأمر.
عادت بعدها إلى أوراقها غير مبالية بعيني تهاني اللتين اتسعتا حتى كادتا أن تبتلعاها وهي تحدق فيها غاضبة.. لا عجب في أن هذه الشمطاء الأربعينية لم تتزوج حتى الآن.. إن كانت هي لا تطيق تحملها ساعات العمل القليلة التي تمضيها معها.. فمن هذا الذي سيمكنه أن يتحملها العمر كله؟
خرج بعد قليل من مكتبه وراح يتحدث إليهم بكلمات واهية لا معنى لها.. نهضت في بطء لتشاركهم تحيتهم العسكرية البغيضة.. كان واضحًا أنه أتى خصيصًا ليمتحن مدى طاعتها لأوامره الأخيرة.. فهو يريد أن يعيد هيبته أمام الجميع كما أخبرها.. حانت منه نظرة إليها.. تراخت نظراتها الحادة لتسقط فوق أوراقها بدلًا من وجهه. 
قال وكأنه يبرر سبب وجوده.. وكأنه لم يكن يستطيع أن يطلب هذا بضغطة زر فوق مكتبه: 
- أستاذة تهاني.. أريد فنجانًا من القهوة.
- أمرك أدهم بك.. سوف أعده لك بنفسي. 
- أشكرك.
ها قد مضى أسبوعها الثالث أيضًا.. الشهر الثالث لها في المؤسسة كاد أن يكتمل.. بخلاف تسلط تهاني ورغبتها المستعرة في الانتقام منها بكل فرصة متاحة لم يكن هناك مشكلات تذكر. 
أما هو فقد نجحت بسخطها الدائم ونظراتها الحادة في جعله يبتعد عن طريقها قدر استطاعته.. صار يعبرهم كالسهم إلى مكتبه غير عابئ بها أو بغيرها.
 تنفست الصعداء وهي توقع في دفتر الانصراف.. غدًا عطلتها الأسبوعية.. يوم من أيامها الحرة التي باتت معدودة منذ عملت في هذه المؤسسة.. بل في مكتبه.. مازال عليها أن تتحمل تسعة أشهر أخرى لتحصل على حريتها كاملة.
دلفت تهاني إلى مكتبه وهي تكاد تهمس كيلا تزعجه:
- سوف أذهب يا أدهم بك.. هل تريد شيئًا؟
- اجلسي.. أريد التحدث معكِ قليلًا. 
جلست تتأمله في ترقب.. أخيرًا سألها:
- ما رأيك في الموظفة الجديدة؟
حاولت أن تبدو هادئة حين قالت:
- أداؤها ليس سيئًا.. ولكن...
حدق فيها متسائلًا فأردفت ساخطة:
- طريقتها في التعامل مع زملائها بمن فيهم أنا غير لائقة.
سألها بقلق:
- ماذا تعني بـ "غير لائقة" 
- ليست فقط غير متعاونة معنا.. بل متعجرفة وعنيفة لأبعد الحدود.
هز رأسه متفهمًا.. هذا أفضل كثيرًا من إغوائها لهم على أية حال.. لكم أزعجه أن يرى "باسم" أحد أكفأ رجال مكتبه وهو يتلصص النظر إليها خلسة.. لا يريده أن يواجه مصير" مازن" و"عبد العظيم".
- أدهم بك.. عذرًا لتطفلي.. ولكن ما الذي يهمكَ من أمرها.. لماذا تصر على عملها معنا و نحن لسنا في حاجة إليها؟
- هل نسيتِ أنها من طرف مازن بك؟
هزت رأسها في تفهم ولكنها ما لبثت أن عادت تسأله بقلق:
- هل يفكر مازن بك في الارتباط جديًا بهذه الفتاة؟
- هذا ليس من شأننا.. كل ما أريده منكِ هو أن تراقبي تصرفاتها جيدًا.. وأن تكتبي لي تقريرًا مُفصلًا عنها من حين لآخر.
- ولكن.....
- تهاني.. نفذي ما أطلبه منكِ فحسب.
- أمرك يا أدهم بك.
***
ما كادت أعصابها تسترخي قليلًا أمس حتى عادت تضطرب اليوم مجددًا.. جاهدت طويلًا لإقناع نفسها بضرورة التأقلم مع ذلك الروتين القاتل مادامت فشلت في التمرد عليه.. ولكن هذه الشمطاء تزيد مهمتها صعوبة.
كانت منكبة فوق الملفات المكدسة التي وضعتها أمامها وطالبتها بإنهائها عابسة كعادتها.. عندما اقتربت منها فجأة قائلة:
- أدهم بك يريدك في مكتبه.
- يريدني أنا؟
- هل تحدثت لغة غير العربية؟
حدقت في وجهها ساخطة قبل ان تنهض لتنفذ ما طلبته منها.. لم تدخل إلى مكتبه منذ المرة الأخيرة التي طالبها فيها باحترامه.. وها هي تلتزم بخطوطه الحمراء التي رسمها لها.. فلماذا يريدها الآن؟
تطلعت إليه صامتة.. كان منهمكًا في مطالعة بعض"الكتالوجات" فلم يلحظ قدومها.. تنبه أخيرًا إلى وجودها فأشار لها بالجلوس:
أغلق "الكتالوج" وأخرج ملفًا آخر سحب منه ورقة ما وتفحصها قائلًا:
- هذا هو التقرير الذي أعدته الأستاذة تهاني بشأنك. 
حدقت به في ترقب.. لن تندهش إذا ما وجدت هذه الشمطاء قد شوهتها وقالت فيها كل سيء.. شعرت بصدمة عندما قال:
- إتقانك للعمل خمسة وتسعون بالمائة.. قلما تمنح تهاني هذه النسبة لأحد مما يعني بأنك متميزة بالفعل. 
تأمل تأثير كلماته عليها قبل أن يتابع:
- لاحظت أنا أيضًا مهارتك من خلال التقارير التي كتبتِها عن بعض الصفقات التي نفذتها المؤسسة مؤخرًا. 
سألته في لهفة:
- هل يعني هذا بأنك ستفرج عني قريبًا؟ 
تأملها متسائلًا فأردفت في رجاء:
- لحسن السير والسلوك على الأقل.
ابتسم في عذوبة قائلًا:
- أمازلتِ عند رغبتك في ترك العمل؟
إن كان في استطاعته أن يبتسم بهذه الطريقة فلماذا يبخل بها؟ هل يعلم تأثيرها الدامي على كل من يراها لذا يترفق بالآخرين..؟ حتمًا هو لا يدخن.. وإلا ما امتلك تلك الأسنان الناصعة البياض التي تتلألأ كالألماس في فمه. 
- آنسة إلهام.. أين ذهبتِ؟
- أنتَ وسيم جدًا عندما تبتسم. 
- ماذا..؟
ابتلع ريقه وابتسم في تهكم.. هل تفكر في إغوائه هو شخصيًا هذه المرة.. تصنع اللامبالاة قائلًا:
- فيما يتعلق بالسلوك.. هناك بعض الملاحظات.
نظرت إليه.. بريق عينيها لم ينطفئ بعد.. تابع وهو ينهل بعضًا منه.
- التقرير يقول بأنكِ تتعالين على زملائك وتعاملينهم بعنف. 
- هل تريدني أن أدللهم..؟ ألم يكن ذلك يغضبك من قبل؟
صوتها المدلل زاده إزعاجًا فخرج صوته مرتفعًا رغمًا عنه:
- أنا لا أطلب منكِ أن تطعميهم أوتجلسي فوق مكاتبهم و.......
- وماذا أيضًا؟
ضغط على أسنانه قائلًا:
- هناك دائمًا حلول وسطى.. ابتسامة جميلة.. كلمة طيبة.. اعتبريها صدقة إن شئتِ.. على أن تكون بلا هدف خفي.. بلا إغواء. 
همست هائمة:
- لماذا لا تتصدق أنت إذًا.. وصدقتك تغريني للتسول؟
ضاقت عيناه وهو يتأملها في تسلية قائلًا:
- اذهبي. 
- هل أنتَ على يقين؟
تسمرت عيناه فوقها في تساؤل فأردفت:
- هل تريدني أن أذهب.. أليس هناك ملاحظات أخرى في التقرير؟
- كلا. 
هزت كتفيها في استسلام وهمت بمغادرة الغرفة عندما استوقفها:
- أخبرتكِ من قبل بأن هذه الملابس الرجالية التي تتعمدين ارتداءها على مدار العشرين يومًا لا تناسب سكرتيرة بمكتبي. 
همست في نبرة بدت له وقحة:
- أمرك يا سيدي.. فقط اطلب من حارس الأمن السماح لي بالدخول.
- تذكري.. حل وسَط.
ضحكت في مرح قبل أن تغمز له بطرف عينيها وتغادر الغرفة.. ظل يحدق في باب مكتبه شاردًا لبعض الوقت قبل أن يهز رأسه ضاحكًا.. أهذه هي الحياة التي تبثها فيمن حولها؟
***
كاد يجن في صباح اليوم التالي ما إن وقع بصره على "باسم" الذي بدا كالأبله وهو يحدق في ساقيها بينما هي قد وضعت ساقًا فوق أخرى وكأنها تتباهى بهما أسفل تنورتها القصيرة.. 
كانت أول من نهض لاستقباله هذه المرة وعلى شفتيها ابتسامة واسعة للمرة الأولى منذ انتقلت للعمل بمكتبه.. في عينيها بريق اخترق زجاج نظارته الداكن ليعبر إلى عينيه.. ما الذي تنوي فعله هذه المرة؟
صاح غاضبًا:
- أستاذة إلهام.. أريدك في مكتبي. 
تأملتها تهاني في عدوانية واضحة بينما ابتسمت هي في لامبالاة قبل أن تهمس في دلال زادها سخطًا:
- هل أفسحتِ لي الطريق يا آنسة تهاني.. أدهم بك ينتظرني؟
تحركت تهانى كالنائمة لتفسح لها الطريق.. كيف تبدلت هذه الفتاة بين يوم وليلة.. ما هذا الذي تفعله..؟!  كانت بالأمس وقحة ولكنها اليوم أكثر وقاحة.. ترى ما الذي يريده منها أدهم بك..؟ يبدو غاضبًا.. لا شك في أنه سوف يوبخها على هذه الخلاعة التي لا محل لها في مؤسسة الشربيني.
- أمرك أدهم بك.
مضت فترة من الصمت تأملها خلالها من رأسها ذي الشعر الناري وحتى أظافر قدميها التي طلتها بلون أحمر صارخ فراحت تلمع في حذائها الأبيض ذو الكعب المسمارى الطويل.. تركت شعرها أملس هذه المرة فبات أكثر طولًا عن ذي قبل عندما رآه مجعدًا..