مهرجان كان السينمائي 2025 : فيلم – عائشة لا تسطيع الطيران – يعزف على مقام الغربة

يمثل فيلم عائشة لا تسطيع الطيران ( التحليق ) للمخرج المصري مراد مصطفي ( عمله السينمائي الروائي الاول ) خطوة اضافية في رصيد السينما المصرية الجديدة التى تنطلق الى مضامين ثرية من حيث الشكل والمضمون . حيث يتجاوز المخرج مراد مصطفي في هذا العمل كل الصيغ التقليدية التى الفناها من نتاجات السينما المصرية من مضامين روائية مختلفة وحلول فنية ومقدرة عالية في تشذيب النص من كثرة الحديث المعهود في السينما المصرية عبر حوارات مقتضبة ثرية وعميقة ومشبعة بالدلالات والعمق الانسانى .
فيلم – عائشة لا تسطيع التحليق او الطيران – يعزف على مقام الغربة من خلال حكاية الصبية السودانية – عائشة – كنموذج لملايين من المهاجرين الافارقة الذين حطوا رحالهم في مصر . وتجري الاحداث في منطقة – عين شمس – حيث العوالم الخاصة بالمهاجرين الافارقة .
الفيلم منذ اللحظة الاولي يعلن عن ميلاد مخرج يمتلك مفرداته ولغته وحلوله ( المقتضب ) والذي يدعو المشاهد للتأمل والتفكير والبحث من خلال تلك الصبية التى تشتغل في البيوت وتشاهد الكثير من النماذج الاجتماعية على خلفية صراع محتدم بين مجاميع مصرية شابة من جهة واخري افريقية تتفجر في كل حيث الى مواجهات ساخنة وقاتلة .
في ذلك الحين تجد – عائشة – نفسها مضطرة الى الانصياع لاوامر قائد العصابة المصري الذى يطلب منها نسخ من مفاتيح الشقق التى تعمل بها للقيام بسرقته مقابل السكوت عن عدم دفعها للايجار .
وتمضي الرحلة عبر ايقاع مستعاد ومكرر يصور الحياة اليومية في الاحياء الشعبية المصرية في القاهرة . ايقاع يتكرر وكانه يشير اشارات واضحة الى اننا امام حالة عامة لا تتكرر ولا تجيد الا الفعل اليومي المستعاد سواء من خلال حركته بواسائط النقل او علاقاتها مع المخدومين الذين تعمل ليدهم وصولا الى السيد عبد الهادي الذى يريد منها اكثر من خدمتة وهو الرجل المسكن المعاق ولكنه يظل يلزمها بتقديم تنازلات جسدية ..
كل تلك الاحداثيات تتحرك على حلم ورمز ودلاله تلوح امامها في كل فترة هي عبارة عن طائر النعامة الضخم ( انعكاس لحالتها بعدم المقدرة على الطيران او التغيير ) . تلك الدلاله الرمزية تظل حاضرة في عدد من المشهديات وصولا الى مشهد مواجهة السيد هادي في واحد من اهم المشاهد التى تدعو للحوار وطرح الكثير من الاسئلة حول الحالة التى وصلت اليها وهى تخضع تحت ذلك الظروف القاهر والطاحن ..
سيناريو ذكي ينطلق عبر حالة تعتمد التحليل والذهاب الى عوالم المهاجرين وظروفهم والمهم ومعاناتهم وحالة العنصرية التى يتعرضون لها والمواجهات اليومية التى تجعلهم تحت ضغط نفسي وجسدي مدمر .. وقد تعاون المخرج مراد مصطفي في كتابة السيناريو مع سوزان يوسف ومحمد عبدالقادر الذين صاغوا نصا متماسكا لعله الاهم من بين العشرات الاعمال التى شاهدناها خلال الاعوام الخمس الماضية .
خف الكاميرا هناك حالة من الابداع عالية الكعب تتمثل بمدير التصوير مصطفي الكاشف الذي يحقق حالة من الثراء لجملة المشهديات وحركة الكاميرا وتصميم المشاهد وترسيخ الحالة النفسية وتحويل الكاميرا الى شاهد على عذاب تلك الشخصية ( الشريحة ) من المهاجرين الذين تعصف بهم الغربة . الكاشف اضافية حقيقية لرصيد التجربة من خلال مقدرته على رسم مضامين بصرية استثنائية .
في التمثيل كل من بوليانا سيمون ( عائشة ) وزياد زازا ( سوكا ) وممدوح صلاح ( خليل ) وعماد غنيم ( عبدون ) ومحمد ابو الهادي ( السيد عبدالهادي ) ..
وقد تميزت بوليانا باداءها الهادي والذي يعبر عن جملة المتغيرات التى مرت بها الشخصية من الضغوط الى الحالة وصولا الى لحظة فرح عابرة مع صديقاتها المهاجرات حيث تلك الرقصة العابرة وسط طواحين الحزن الطاحنة .. وهناك علاقتها مع الطباخ خليل الذي كانت تتامل منه الكثير حتى تكتشف حالة حينما يبتعد فتذهب للبحث عنه واذا به مقيم في المقابر .وهنا نشاهد دمعتها للمرة الاولي بعد ان تكتشف فقدان حلم ( باهت ) ظلت تتمسك بها فاذا به مجرد سراب كما حالاتها اليومية التى تتواصل من خلالها الشخصية انكسارا امام لجة الالم والتعب الجسدي والبعد عن الاهل وسط حرب اهلية طاحنة في السودان .
فيلم – عائشة لا تستطيع الطيران – منطقة جديدة في الانتاج السينمائي العربي عبر مخرج يعرف ما يريد واستطاع ان يقدم الحالة والظرف بكثير من الشفافية العالية والتى لم تدلس او تخبئ كل الممارسات ولعله ابرزها حالة العنصرية والصراع اليومي الذي يشبة الاسترخاء على حافة النصل .
مصطفي مراد يحقق نقله واحدة في تقديم عمل سينمائي مصري بمواصفات عالية المستوي هاجسها الاساس الانسان وعنوانها المحوري الغربة والمهاجرين .
فيلم جرئ عميق ثري واضح شفاف يذهب بعيدا في استقراء مواجهات دموية قادمة بين تلك القطاعات التى يشير لها الفيلم حيث كانت تقطن – عائشة - .
في المشهد الاخير حيث عائشة تذهب للعمل في احد دور العجزة وكان قدريتها ان تظل مكبلة الى الارض لا تسطيع التحليق او تجاوز الظرف الذى راح يقيدها .. وكانها تستسلم الى قدرها وغداها الغائب .
ويبقي ان نقول ..
برافو.. للمخرج الشاب مراد مصطفي احد رهانات السينما المصرية الجديدة .