داليا سعيد تكتب قانون انتيجون معالجة دراميّة مصريّة عصريّة
في إطار الأعمال الأدبيّة المقتبسة، شاهدتُ عرضاً مسرحيّاً متميزاً بعنوان "قانون انتيجون" المقتبس عن مسرحيّة "انتيجون" للكاتب الإغريقيّ القديم "سوفوكليس".
هذا العرض المسرحيّ كان مشروعَ تخرّجٍ لإحدى طالبات الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، فهي تمثّل فيه مع زملائها وزميلاتها، ومن إخراج د. دينا أمين أستاذ المسرح بالجامعة الأمريكيّة بالقاهرة.
ويعد العرض معالجة درامية مصرية معاصرة، وليس اقتباسا نصيا.
كان العرضُ ممتلئاً بالمعاني والأبعاد الاجتماعيّة المختلفة التي يمكن ربطها بالواقع المجتمعيّ المصريّ في الوقت الراهن.
وعلى غير المعهود كانت الجوقة Chorus كلّها من الفتيات، وكان غناؤهنّ يحمل في طيّاته الكثير من التناص الذي يسفر عن معانٍ كثيرة وأبعادٍ غنيّة المعنى: ففي إحدى المقطوعات كان هناك بعض الآيات الإنجيليّة التي تدعو إلى التضحية من أجل الخلاص والحفاظ على البشريّة من الهلاك. وهي تشير إلى أهمّيّة تطبيق قوانين الآلهة التي تدعو إليها البطلة "انتيجون"، وكانت الجوقة تتّفق معها في الالتزام بالإنسانيّة ورفض القهر والقمع اللذين تمارسهما بعض البلدان تحت عنوان "تطبيق قانون الدولة".
أمّا المؤثّرات الصوتيّة جميعها فقد جاءت متمثّلة في غناء الجوقة الحزين، لا سيّما في الصراعات بين الشخصيّات التي تدعو إلى الإبقاء على الإنسانيّة بدفن الميت وإكرامه وشخصيّة "كريون" المتسلِّطة التي ترفض هذا، وتقمع كلَّ من يؤيّده.
وتمشّياً مع الثقافة المصريّة والفلكلور النوبيّ الذي يمثّل الجذور والهوية المصريّة تشدو الفتيات في الجوقة بأغانٍ نوبيّة تعكس التراث والتقاليد التي نشأ عليها المصريّون، فتؤكّد رؤية انتيجون وأهمّيّنها الإنسانيّة، وهي السماح بدفن أخيها في هذا السياق.
ومن الجدير بالذكر أن صوت جوقة الفتيات كان ساحراً بلا موسيقا، فهو في حدّ ذاته كان سينفونيّة عزف تصدح، فتنشدُّ إليها الآذان.
ورأيت اختيار د. دينا أمين لديكور المسرح معبِّراً للغاية، فقد استبدلت الجثث الممنوع دفنها بمجموعة كبيرة من الملابس على شكل هرميّ، وذلك على الأرجح لتقليل التأثير الدراميّ (التراجيديّ) على المشاهد، وأيضاً للإيحاء بالعدد الكبير الغير المحدود للممارسات اللا إنسانيّة التي ترفض دفن الموتى.
ويأتي عنوان العرض "قانون انتيجون" ليكون إضافةً ثريّةً للمعنى، فقانون البطلة "انتيجون" هو قانون جميع الأديان السماويّة واللا سماويّة التي تدعو إلى الرحمة والإنسانيّة، كما أنه يوحي بأنّ هذا القانون يجب أن يكون نافذاً من أجل إنقاذ البشريّة والحفاظ عليها من الهلاك. ويعكس العنوان أيضاً المنظور النسوي للعرض، فالقانون تمثّله امرأة، وظهر نفاذه أيضاً في اختيارها لطريقة موتها ورفضها القمع وقهر عمّها "كريون" الذي يمثّل ما يسمّى بقانون الدولة. وجاء موت البطلة "انتيجون" بمثابة تحرير وخلاص للبشريّة ، وهي بذلك تعكس رسالة السيّد المسيح في المسيحيّة، فتتعدد المعاني وتتأكد الرسالة بكونهاعالمية تخص البشرية جمعاء رغم اختلاف الزمان والمكان.
وتأكد المنظور النسوي أيضاً بظهور أهل طيبة (وهي مدينة يونانية قديمة وفي الوقت ذاته مصر القديمة) جميعهن من النساء وكنَّ يمثلن صوت الحكمة في إعطائهنّ نصائح عديدة لـ "كريون" وفي حديثهنَّ الموجّه إلى الجمهور، يخوّفهم من انتهاء الإنسانيّة وسفك الدماء.
وكان من الملاحظ ارتداؤهنّ العباءات السوداء التي تمثل الزي المصري الريفي المتحفظ الذي يلتزم بالتقاليد، وقد يوحي ذلك بحزنهن على ما آل إليه مصير عائلة أوديب من لعنات الآلهة . وفي الحقيقة قد يمثّل زيهنّ الأسود حزنهن الدفين على انتهاك الإنسانيّة وحقوق الإنسان .
وفي النهاية كان أداء هذا العرض رائعاً من قبل طلاب وطالبات الجامعة الأمريكية، وبإخراج متميّز للدكتورة دينا أمين واقتباس يحمل في طياته رسالة سامية للبشريّة.