سميحه المناسترلى تكتب "طموح سيدة الشغالة".. من المجموعة القصصية "الحصان"
وقفت (سيدة) تجلى الصحون والكاسات، بينما مخدومتها بالداخل تستريح، حيث حصلت على إجازة عارضة من عملها لشعورها بوعكة خفيفة، كان غاية سعادة "سيدة" أن تشعر بأنها سيدة المنزل ولو لمدة سويعات بسيطة، لكن هذا الأسبوع خاب أملها .
فرغت من تنظيف الصحون وأمسكت بأول كأس بيديها، هنا جال بخاطرها كأس شربات فرحها، فاحتضنته بكل هيام، ساهمة متذكرة عبدالله عريسها الذي وقفت بسببه أمام أخوالها لتحصل على موافقتهم للزواج منه، بالرغم من عدم وصولها إلى السن القانوني، كما كان هناك عائق آخر وهوعمله بمقهى والده !! .
فكانت القهوة بالنسبة للأخوال مجرد (مرتع) للفساد لأنها تقوم على تقديم كل من الشاي والقهوه كبداية بريئة لخدمة الزبون، لتصل بعد ذلك إلى المخدرات والخمور والصفقات المشبوهة، كما أن زبائنها حفنة من النصابين والبلطجية وتاجرى الأعراض، هم يخشون على (لحمهم) إبنة اختهم اليتيمة من الإنخراط في هذا المناخ الموبوء.
الأم مجرد خادمة بالبيوت تكدح لتُكفل لإبنتها حياة مستورة، حلم حياتها أن تكمل (سيدة) تعليمها حتى تتفادى مصيرها : "اتعلمي يابنتي أهو سلاح في ايدك يكفيكي شر الدنيا, وتأليبها على الفقراء اللي زى حالتنا"، هذه كانت نصحية الأم لإبنتها مشجعة إياها على المضى في التعليم والدأب على المذاكرة والإنتظام بالدراسة، حينما كانت تشعر بحالات الملل والتمرد التي كانت تنتاب ابنتها بين الحين والآخر، فتصرخ في وجه أمها مصرحة بعدم ميلها لمواصلة التعليم .
انسابت على وجنتيها دمعتان حينما تذكرت إشتراط الأهل أن يتما الخطيبان دراستهما، وأن ينفصل عريسها عن العمل بمقهى والده كشرط لإتمام الزواج، فما كان منهما إلا القبول، وقاموا بإصدار شهادة تسنين نظراً لعدم بلوغها السن القانوني، طاف أمام عينيها صورة عبد الله وهي ساهمة، مستعرضةً وسامة عريسها يوم الفرح، بشعره الكستنائي وعيناه التي لطالما أغوى بهما بنات شارعهما بل الحي بأكمله، وكيف استطاعت هي فقط الفوز بقلبه والزواج منه .
همست بداخلها مدللة نفسها: الله ..وليه لأ؟ ما انا حلوة برضك، نغشة وزي القمر!! دا انا على غمزات لما اضحك يبهجوا الدنيا، زي الشمس لما ترمي نورها ودفاها على البشر في عز البرد، (أكملت محدثة نفسها بصوت مسموع): الله على كلامك الحلو يا عبدالله .. والله لك وحشة يا واد ) - بتنهيدة مشتاقة - قطع حديثها مع نفسها صوت مخدومتها الذي جاء من بعيد رغم وجودها داخل الشقة.
تنبهت الى أن سماعات المحمول تسد أذنيها ولكنها تجاهلت نداء مخدومتها !! فهي لا تريد من يقاطعها ويقتحم خلوتها، وهي داخل صومعة أفكارها وذكرياتها، خاصة وأن فكرها أخذها إلى وجه وليدتها الجميلة (رُقية)، وصدمة (سيدة) بعد مغادرتها مستشفى الولادة وعودتها لمنزل اسرة (عبدالله)، واكتشافها زواج عبدالله من ابنة عمه التي قاموا بتسكينها الدور العلوي من منزلهم .
وكان الطلاق الأول، ثم رجوعها والصلح بينهما، وبعدها كان الطلاق الثاني، بعدما قامت ضرتها متعمدة (بدق الكفتة فوق سقف حجرة نومهما بيد الهون النحاس، لكي تعكر عليها هي وزوجها صفو ليلة مبيته عند سيدة بالشقة السفلية) فسقطت قطعة من السقف فوق رأسهما أثناء نومهما، فما كان من سيدة سوى صعودها سلالم المنزل، مخترقة باب الشقة المفتوح وقيامها بجذب ضرتها من شعرها، مسببة جرح غائر نتيجة ضربها بكعب الشبشب على رأسها، وكان نزيف الدم، وانقسمت باقي الليلة ما بين المستشفى وقسم البوليس .. وختامها كان يمين الطلاق عليها.
أغرورقت عيني (سيدة) بالدموع، وخرجت عن وعيها وهي تتخيل (عبدالله) أمامها صارخة بصوت مسموع بعتاب وشعور بالقهر : ليه وكستنا كده يا عبدالله .. ملعون أبو الفلوس، يعني ترضي أبوك عشان شراكته مع عمك في القهوة، وتتجوز على البومة بنت عمك ؟!!! أدعي عليك بإيه بس؟ وحعمل أيه !!! يرضيك شحطتي انا وبنتك كده عشان لقمه العيش؟ روح منك لله ..!.
أفاقت على الكأس منزلقة من بين يديها متحطمة متناثرة على أرض المطبخ .. إنزعجت أسرعت بتنظيف المكان قبل أن تأتى سيدتها، فتخصم ثمنها من أجرتها، تنامى إلى سمعها صوت مخدومتها يأتي من بعيد ولكنها تجاهلته مرة أخرى .. عائدة إلى صومعة أفكارها، استحضرت أمها وعملها بالبيوت، وتبرؤها أمام زميلاتها بالمدرسة من مهنة الأم، فتارة تدعي بأنها تعمل بالتمريض، وتارة أخرى تقول أنها بائعة في محل كبير .. قفزت صورة ابنتها أمامها، وانزعجت كمن أفاقت على كابوس، فها هو التاريخ يعيد نفسه، هذا الماضي الذي كانت تتمرد عليه وتخجل منه، ها هي اليوم منغمسة فيه وجاذبة ابنتها إلى نفس المصير !! وارتسمت خيبة الأمل على وجهها .
دق الموبايل وبسرعة خاطفة قامت بفتحه تلقائياً، وفوجئت بصوت عبدالله: جرى إيه يا(أم رقية ) البت وحشتني.. مش تعقلي بأه..؟ مناغشا إياها... في نفس اللحظة اقتحمت مخدومتها المطبخ غاضبة، صارخة في وجهها: (انتي مش سمعاني يا سيدة ؟ انا بنادي عليك من الصبح) مش بتردي ليه؟ تغلق سيدة الموبايل في وجه طليقها، متفاجئة من مباغتة سيدتها، تخلع المريلة، تغلق صنبور الماء ، ملقية بفوطة المطبخ على أقرب كرسي بوجه نمرود مكفهر، وسط اندهاش سيدتها من تصرفها قائلة : تبقى شوفيلك واحدة تانية تتأمري عليها .. أنا راجعة لأبو بنتي.. أهو ضل راجل ولا ضل حيطه.. سلاااام .