د.احمد ابوالعلا يكتب قانون المسئولية الطبية: من قلب الطبيب إلى ضمير المجتمع
بصفتي طبيبًا أقف يوميًا بين ألم المريض وواجب العلاج، لا أكتب اليوم من برج عاجي، ولا أتحدث بلغة القوانين المجردة، بل بصوت إنسان يحمل على عاتقه مهنة دقيقة، لا تحتمل الاتهام السريع ولا المساءلة العشوائية. نحن لا نطلب امتيازات، بل نرجو أن يُنظر إلينا كما نحن: بشر نُعالج بشرًا، ونُخطئ ونُصيب في مهنة تقوم على الاجتهاد العلمي والنية الصافية.
قانون المسئولية الطبية الذي تسعى الدولة لتفعيله هو خطوة طال انتظارها، تعيد بعضًا من الاتزان إلى منظومة أصبحت مهددة بثقافة التشكيك والخوف. لا أحد فوق المحاسبة، ونحن أول من يُطالب بأن يُحاسَب الطبيب إذا أخطأ، لكننا نرفض أن يُساوى الاجتهاد بالتقصير، أو أن تُصبح المضاعفات المتوقعة جريمة.
يعطينا هذا القانون أملاً في وجود لجنة فنية متخصصة، تملك المعرفة الكافية لتفهم تفاصيل الحالات، وتُفرّق بين الخطأ الجسيم والمضاعفات التي قد تحدث رغم كل الإجراءات الصحيحة. ويمنع إحالتنا للتحقيق قبل رأي هذه اللجنة، وهذا هو الحد الأدنى من العدل في مهنة لا تعرف اليقين الكامل.
ومن أبرز النقاط التي نُثمنها في هذا القانون، فرض التأمين الإجباري على الأطباء ضد الأخطاء الطبية، على غرار ما هو معمول به في العديد من دول الخليج. في السعودية والإمارات وقطر، لا يمكن للطبيب أن يباشر عمله إلا بعد أن يكون مشمولًا بوثيقة تأمين تغطي المخاطر المهنية المحتملة. هذا النظام لا يحمي الطبيب فقط، بل يحفظ حق المريض في التعويض السريع والعادل إذا ثبت وقوع ضرر حقيقي. وهو بذلك يحقق توازنًا حضاريًا بين الأمان المهني للطبيب، والعدالة للمريض، دون أن تتحول الأخطاء البشرية إلى كوارث شخصية أو مهنية.
أطباء كثيرون يعملون تحت ضغط نفسي لا يُحتمل، يخشون كل قرار علاجي، ليس فقط خوفًا على المريض، بل خوفًا من المجهول القانوني الذي قد يتربص بهم. لذلك فإن التأمين الإجباري خطوة جوهرية، تعيد الطمأنينة إلى بيئة العمل، وتدفع الطبيب إلى ممارسة مهنته بثقة وهدوء.
ونُرحب بأن يُحاسب من يثبت إهماله، وبأن تُرد الحقوق لأصحابها، لكننا نحلم أيضًا أن نُعامل بما يليق بمهنة نحملها بصدق، حتى وإن خانتنا الظروف أو خذلنا الحظ.
في النهاية، لا يُبنى طبٌ عظيم في بيئة يسكنها الخوف، ولا تُحمى حياة مريض بطبيب مرتعش. القانون العادل لا يُكبل يد الطبيب، بل يُثبتها. ولا يُرهبه، بل يُحصّنه. فإن كنا نُطلب أن نبذل عمرنا في سبيل حياة الآخرين، فمن العدالة أن نحظى بقانون يُنصفنا حين نخوض تلك المسافة الشاقة بين الاجتهاد والخطر، بين الأمل والموت، باسم العلم وباسم الرحمة.