رواية لماذا أنتِ؟ الحلقة الأولى

الجمعة 11 سبتمبر, 2020

الحلقة الأولى من رواية لماذا أنتِ؟ للكاتبة الروائية أماني عطا الله .. رواية تأخذك في رومانسي لذيذ، تعيش فيها صراع رهيب بين العقل بكل ما يحمله من عقد وبين القلب بكل ما يحمله من حب.
بطل هذه الرواية رجل أعمال شرقي ملتزم إلى حد التزمت، الزواج بالنسبة له لم يكن أكثر من صفقة عليه دراستها جيدًا للحفاظ على اسم عائلته واستمرارها، لكنه رغم ذلك يجد نفسه أسيرًا لإغواء إلهام، التي حلت بديلًا مؤقتًا لسكرتيرة مكتبه بسبب مرض والدة الأخيرة.

زفر أدهم بضيق وهو يعاود النظر إلى ساعة الحائط الكبيرة المعلقة في مطار هيثرو.. ترى هل تأخرت الطائرة بالفعل أم أن حديث صديقه عن تلك الرائعة قد أصابه بالملل..؟
مازن.. ليس ابن خالته فحسب.. بل هو صديق الطفولة والصبا.. والمسئول الأول عن فرع شركته الجديد في لندن.. بالرغم من التناقض الكبير بينهما فهو يبقى الصديق المقرب إلى قلبه إن لم يكن الوحيد. 
لم يبد على مازن أنه لاحظ السخط البادي فوق ملامحه.. ربما لشدة سعادته بهذه المرأة.. وربما لأن السخط والجدية الأقرب للعبوس علامة مميزة محفورة فوق وجه صديقه منذ عرفه.. عاد يهتف في نشوة:
- آهٍ.. لو رأيتها يا أدهم.. لصدقت حديثي عنها وعلمت بأنني لا أبالغ أبدًا في وصفها.. يا لها من رائعة..! سوف تجبرك بعد نظرة واحدة على تغيير رأيك الظالم في النساء جمعاء.
ابتسم أدهم في تهكم قائلًا:
- كلهن رائعات في عينيك يا عزيزي.
هتف مازن في حماسة:
- هذه المرة تختلف.
- حماستك زائدة ليس إلا.
- أنا عاشق يا أدهم.
ضاقت عينا أدهم وهو يحدق في ملامحه قبل ينفجر ضاحكًا.. كانت من المرات القليلة التي يضحك فيها من القلب.. فابتسم مازن:
- يسعدني أن الأمر يروقكَ لهذا لحد.
تفحصه أدهم صامتًا.. ملابسه الرياضية الباهظة الثمن.. السلسلة الذهبية التي تتدلى من عنقه وخاتم البلاتين الذي يزين أصبعه.. وسامته المفرطة التي يضاهي فيها النساء.. بشعره الذهبي، بشرته البيضاء، عيناه العسليتان.. نظراته الجريئة وحديثه المعسول خاصة معهن.. كل هذا جعل منه مطمعًا لهن.
في كل زيارة له إلى لندن.. يخبره عن امرأة جديدة رائعة كتلك التي يتحدث عنها الآن.. وبنفس هذه الحماسة وهذا الهيام. 
ولكنها المرة الأولى التي يتحدث فيها عن العشق والغرام..!
ربما كانت رائعته هذه المرة أكثرهن جمالًا ودهاءً.. ولكنه على يقين بأن صديقه سوف يتعافى قريبًا من هذا الحب ما إن تثبت أنها لا تختلف عن سائر النساء.. بل ربما كانت أكثرهن عهرًا أيضًا.
تنبه إلى مازن حين قال:
- أمازلتَ تعمل بنصيحة جدك؟
- ولن أتخلى عنها أبدًا.. فهي ما جعلت مني رجلًا ناجحًا.
- تقصد آلة ناجحة.. أنتَ تفتقد الحياة يا أدهم.
تأمله ساخرًا ولم يعلق.. فعاد مازن يقول:
- لن تستطيع أن تكمل الحياة بمفردك مهما تظاهرت بالقوة.
- ومن قال بأنني سأكملها بمفردي؟  التزامي بنصيحة جدي لا يعني بالضرورة أنني لن أتزوج وأنجب أطفالًا.. ولكن يجب أن أحسبها جيدًا قبل أن أقدم على مشروع كهذا.
- مشروع.. وكأنكَ تتحدث عن صفقة جديدة..!
- الزواج هو صفقة العُمر أيها المتهور.
تطلع إليه مازن ساخطًا.. هذه الآلة التي تجلس بجواره لن تجدي معها كل النصائح والتوصيات.. لو عاد جده من الموت ليخبره بنفسه أنه لم يكن يقصد ما فهمه من تلك الوصية فسوف يفشل في إقناعه بالعدول عن قراره.. لن يحيد قيد أنملة عن هذا الخط الذي تبرمج على المضي في اتجاهه.. ما لم تحدث معجزة..!
عاد مازن يهتف بصبر نافد:
- لا تنسَ أمر الوظيفة.
أجابه أدهم محاولاً استفزازه:
- إن كانت رائعة كما تقول.. فلا ظني أنها بحاجة إلى وساطة للحصول على وظيفة.
- أعلم أنها تستطيع الحصول على وظيفة دون مساعدتي أو مساعدتك.. ولكنني أريد أن أكون مطمئنًا عليها.. أريدها أن تكون تحت عينيك دائمًا.
- قل أنكَ لا تثق بها.. تريدني أن أراقبها لك.. وهذا يثبت صحة نظريتي في معظم النساء.
- الأمر لا يتعلق بالثقة.
- وبأي شيء يتعلق إذًا؟
- أخشى أن يخطفها أحدهم مني.. فأنا أغار عليها حتى من ملابسها.
تأمله أدهم في عدم تصديق:
- منذ متى وأنت تتحدث بهذه الطريقة؟
- منذ عشقتها.
- عشقتها...!
- إنها ساحرة.. إنها الحياة بكل طاقاتها.. لن تتخيل ما الذي يمكن أن تفعله بأي مكان تتواجد فيه. 
أطلق تنهيدة طويلة وأردف:
- حبيبتي نار تذيب الجليد وتبث فيه دفئًا لا يبثه سواها.. إعصار مدمر لا يترك شيئًا على حاله. 
- يبدو أنكَ جننت..!
- أخشى أن تراها فتجن مثلي. 
أشار بسبابته مُنذرًا وأردف:
- ولكن حذار أن تنسى أنها لي.. أنا من أحببتها أولًا.
هز أدهم رأسه وازداد سخرية.. يبدو أن صديقه مسحور بجرعة زائدة من مكرهن.. ولكن كلها أيام قليلة وسيقدم له عنها تقريرًا مفصلًا يفك هذا السحر.
ها هي طائرته قد وصلت بعد طول انتظار.. نهض وصافحه مودعًا.. أخيرًا كتب له أن يتخلص من ثرثرته التي بدت وكأنها لن تنتهي.. تلك التي وصفها بكل الصفات فلم يتبق في مخيلته منها إلا كونها كالساحرة الشريرة التي تدمر وتشعل وتسلب الهدوء من كل مكان تحل به.
***
اتجه من مطار القاهرة إلى مكتبه مباشرة وما إن دلف إلى الغرفة الخارجية منه حتى انتفض فريق السكرتارية الخاص به ووقف مرتعدًا. 
هتفت تهاني رئيسة مكتبه وهي تفتح أمامه باب غرفته:
- حمدًا لله على سلامتك يا سيدي.. كنتَ في لندن منذ ساعات قليلة فقط.
- هل ظننتم بأنني لن أعود؟
- ليس الأمر هكذا يا سيدي ولكن.....
- أريد تقريرًا مفصلًا عن كل ما حدث خلال اليومين السابقين.
- حالًا يا أدهم بك.
***
رفع رأسه عن أوراقه أخيرًا وتنفس الصعداء.. كل شيء يبدو على ما يرام.. لاح له طيف جده راضيًا مبتسمًا وعاد صوته يرن في أذنيه:
- عملك هو مستقبلك.. هو ما سيحدد مصيرك وحياتك.. هو مكانتك بين الآخرين.. هو سعادتك وهو شقاؤك.. هو سبيلك لربح الدنيا والآخرة أيضًا إن أتقنته وأخلصت له.. فاهتم به يا ولدي ولا تكن مثل والدك فأنت ترى ما آل إليه أمره بسبب استهانته وإهماله. 
مسكين والده الذي انحسر اهتمامه ما بين الخمر والنساء حتى لقى حتفه في سن مبكرة بين ذراعي إحدى الراقصات ليزيد من سخط والدته وعذابها. 
رحل وتركه وحيدًا لأم حزينة بائسة قهرتها الغيرة والخيانة حتى لحقت به بعد سنوات قليلة وتركته هي أيضًا.. تولى تربيته جد أكثر حزنًا وبؤسًا.. جد خسر وحيده في ريعان شبابه لمجرد أنه أسرف في تدليله ومنحه كل ملذات الحياة.. فإذ بالموت كان الأقرب له منها.
الطريقة الصارمة.. الحازمة.. والقاسية أيضًا.. التي سلكها جده لتربيته تناقض تمامًا ذلك التدليل المفرط الذي تلقاه والده.. والذي تلقاه هو أيضًا منه عندما كان والده على قيد الحياة.. لم يفهم حينها.. لم يستوعب عقله الصغير أن جده يفعل به كل ما يفعله.. خوفًا من أن ينتهي به الأمر إلى نفس المصير المؤلم الذي انتهى إليه والده. 
لن ينسى أبدًا تلك الليلة التي ضربه فيها ضربًا مبرحًا لخطأ غير مقصود.. هرب بعدها من منزله وكاد يضيع للأبد عندما احتضنته مجموعة من أصدقاء السوء طمعًا في ملابسه الثمينة وساعة يده الذهبية.. أيام قليلة أمضاها بينهم جردوه فيها من كل متعلقاته النفيسة وقدموا له بدائل بشعة.. بدا معها وكأنه واحد من هؤلاء المشردين الذين لا عائل لهم ولا مأوى.. وما لبثوا بعدها أن طالبوه بالعمل أيضًا حتى لا يثقل عليهم.. حمدًا لله.. قبضت الشرطة عليه من أول جريمة سرقة حاول ارتكابها.. تردد كثيرًا في إخبارهم عن جده.. ولكنه لم يجد في النهاية مفرًا من ذلك خوفًا من تحويله إلى إصلاحية الأحداث.. كان قد سمع أن الحياة في مثل هذه المؤسسات أكثر قسوة من الحياة في بيت جده.. لم يصدقه الضابط في بادئ الأمر.. لولا وجود ذلك المحضر الذي حرره جده باختفائه.
وقف يرتعد خوفًا عندما وصل جده ليتسلمه ظنًا منه بأنه سيقتله هذه المرة.. كانت صدمته شديدة عندما احتضنه بقوة وراح ينتحب في حرقة وكأنه طفل صغير.. كل شيء تغير من يومها.. بعد أن أدرك جده بأن القسوة لا تختلف عن التدليل في إفراز المزيد من المقهورين والفسدة.
تنبه من شروده على طرقات تدق باب مكتبه:
- ادخل.
دلفت الآنسة تهانى إلى الداخل بخطى مترددة قائلة:
- تخطت الساعة الثالثة والنصف و.........
- يمكنكم الانصراف.. أنا سأبقى قليلًا.
- يمكنني أنا البقاء لمساعدتك إن شئت. 
- كلا.. اذهبي أنتِ أيضًا.. بإمكاني تدبر أمري.
فتحت فمها لتقول شيئًا آخر ولكنه سارع بالقول:
- لا تقلقي بشأني.. لن أمكث طويلًا.
نظرت إليه في مزيد من التردد ولكنها ما لبثت إن تركته على مضض وهي تغمغم:
- حسنًا يا سيدي.. ولكن إن احتجت شيئًا يمكنكَ استدعائي وقتما شئت.  
مضت وتركته.. عاد إلى شروده من جديد.. ولماذا يجب أن يذهب الآن..؟ ما الفرق بين بقائه في مكتبه أو العودة إلى منزله..؟  
في كلتا الحالتين سيبقى وحيدًا. 
ومن ينتظره هناك سوى خادمه العجوز؟!  بل خادم جده الذي أكل عليه الدهر وشرب وراح يتسلى بحواسه واحدة تلو الأخرى حتى ملَّ منه.. فهو بالكاد يبصره عندما يحدثه.. أما عن السمع.. فشر البلية ما يضحك.. طرائفه لا تنتهي.. كلما طلب منه شيئًا أتى بآخر لا يمت له بصلة.. لكنه لا ينكر أبدًا بأن هذه الطرائف رغم قسوتها.. هي الشيء الوحيد الذي يخطف الضحكات من أعماقه الداكنة.
ربما حان الوقت بالفعل للبحث عن زوجة عاقلة.. متزنة.. تنجب له أطفالاً وليس طفلًا واحدًا.. يكفيه ما عاناه هو من وحدة قاتلة طيلة حياته.. لا يجب أن يعاني أطفاله مثله.
ما زال يتذكر آخر كلمات جده وهو على فراش الموت:
- حذار يا ولدي من الخمر والنساء.. إياك يا ولدي من الخمر والنساء.
استمر يومها يرددها كالمهووس حتى فارق الحياة.. لم يستطع أن يلفظ أنفاسه ويرقد في سلام إلا بعد أن وعده بأن ينفذ وصيته.. وبأنه لن يسمح لقطرة خمر أن تلوث جوفه ولا لامرأة بأن تلوث حياته.. هذا الوعد وحده.. هو ما ساعده على الصمود حتى الآن وسط خضم من الإغراءات العاتية. 
ما خلا من سقطات معدودات كان ندمه عليها أكثر من متعته بها.. فهو ليس ملاكًا على أية حال بل هو بشر والحياة تدفعه لملذاتها دفعًا.
دفن رأسه بين راحتيه وأطلق تنهيدة طويلة.. قطعًا لم يكن جده يقصد كل النساء.. لابد وأنه استثنى إحداهن لتكون زوجة له.. جده لن يكون سعيدًا بمشقة الوحدة التي يعانيها الآن.. ولا بقطع نسله من جذوره بهذه الطريقة المؤلمة. 
لم تكن والدته المسكينة سببًا في موت والده المبكر بالسكتة القلبية.. ربما كانت تلك الراقصة التي شاركته الكحول والمخدرات حتى توفى بجرعة زائدة منها.. على العكس كانت والدته هي الضحية.. كانت المجني عليها دائمًا. 
كان صغيرًا ولكنه أدرك بأنها تموت كل يوم وهي تتحمل هجر والده وإهاناته لها كلما رآها مصادفة كالغرباء.. إذا ما أرغمته الظروف أحيانًا على التواجد في المنزل..! 
كانت تتحمله بصدر رحب وحب لم يقدره.. نعم.. كانت تعشق والده وتحاول إسعاده بكل الطرق ولكنه لم يكن يمنحها الفرصة.. لم يكن يشعر بوجودها من الأساس. 
سوف يبحث عن زوجة تشبه والدته.. تلك الحنونة المثابرة ذات القلب الكبير. وسيعمل على إسعادها بكل الطرق.. سيعوض والدته في شخصها عن كل حرمان وقسوة ومعاناة.. سوف يكفر عن ذنب والده الجاحد في حقها. 
نهض أخيرًا واتجه إلى غرفة أخرى في مكتبه.. هذه الغرفة التي لا يعلم بوجودها أحد عدا ساعي مكتبه الذي ينظفها من حين لآخر.. غرفة زودها بحمام خاص وأثاث بسيط بدت معه وكأنها غرفة في فندق صغير.. جهزها خصيصًا لطارئ مثل هذا.. سوف يبيت ليلته هنا.. فتح الخزانة الصغيرة وأخرج منامته.. سوف ينعشه حمامًا ساخنًا.. كان ينبغي أن يفعل هذا منذ وصوله من المطار.
استلقى أخيرًا فوق فراشه مغمض العينين.. استرخى جسده بينما أبى عقله أن يقلده.. بل بقى مستيقظًا يفكر في مشروع الحياة. 
لم يكن عالمه يخلو من النساء.. الكثيرون من رجال الأعمال الذين يعرفهم عرضوا عليه بناتهم في حيل مكشوفة.. تارة في سهرة عمل وتارة في حفل زفاف.. بل أن بعضهم أحضرهن إلى مكتبه أيضًا.. ترى من منهن تصلح زوجة له وأمًا لأطفاله؟ من منهن يمكنها أن تقضي على وحدته وتبدد معاناته؟
**
شهقت تهاني في فزع عندما دلفت إلى غرفته صباح اليوم التالي لتضع بها بعض الأوراق والتقارير ففوجئت بوجوده يجلس خلف مكتبه مرتديًا حلته كاملة وأمامه بقايا من فنجان القهوة.
- صباح الخير يا سيدي.
- صباح النور.
هل يجلس هكذا منذ أمس..؟  فهي تصل كل صباح أول الجميع ولكنها لم تره يدخل.. متى وصل إذًا..؟  ألم يغادر كما أخبرها..؟ وإن كان قد غادر بالفعل.. متى عاد من جديد؟ 
عشرات الأسئلة تزاحمت في رأسها وهي تضع الأوراق أمامه ولكنها لم تجرؤ على البوح بها بل اكتفت بالقول:
- أتريد شيئًا آخر يا سيدي؟
- فنجانًا من القهوة. 
- ولكن.....
رفع رأسه وألقى عليها نظرة سريعة عاد بعدها إلى قراءة الأوراق التي وضعتها للتو أمامه فغمغمت مجبرة:
- أمرك يا سيدي.
ابتسم في رضا وهو يقرأ التقرير الخاص بالصفقة التي أبرمها الأسبوع الماضي.. تلك الخاصة بأجهزة الكمبيوتر.. سوف تحقق له ربحًا لا بأس به.. يستطيع بعدها أن يزيح ذهنه قليلًا ويوجهه في اتجاه آخر.. صافي الطحان.
**
انطلق في رشاقة يتنقل من قسم لآخر مزهوًا بمؤسسته الكبيرة.. مؤسسة الشربيني للاستيراد والتصدير.. من يراها الآن لا يصدق أبدًا إنها ذات الشركة الصغيرة التي ورثها عن جده.. كانت تعاني يومها من ثقل الديون التي أغرقها فيها والده بعد سقوطه في دوامة الإدمان. 
وصل أخيرًا إلى قسم الحسابات يتبعه اثنين من رجال الأمن وأحد أفراد السكرتارية الذي طوى دفتر ملاحظاته ووضع القلم في جيب سترته وكأنه أنهى مهمته.. لن يحتاجه في هذا القسم.. يكفي وجود عبد العظيم به..  فهو قسم هادئ مستقر لا يمثل مشكلة ولا يسبب إزعاجًا.. يزوره أدهم بك من وقت لآخر ليعلن لمن يعملون به بأنه تحت سيطرته لا أكثر.
استقبله عبد العظيم في حفاوة بالغة وقف على إثرها كل من بالقسم احترامًا له.. لكنه رغم هذا شعر بالضيق.. هذا القسم يصيبه بالتوتر والانقباض رغم انضباطه.. ربما كان هذا سببًا خفيًا لجعله يتجنب زيارته كثيرًا.. تكفيه تلك العيون التي تحدق به كلما رأته وكأنها لعبيد يعملون بالسخرة رغم ما يقدمه لهم من رواتب ضخمة لا تقدمها أية مؤسسة أخرى.
قال في هدوء كمن يؤدى واجبًا روتينيًا يكرره كل يوم:
- هل هناك مشكلة ما في هذا القسم؟
هز عدد منهم رأسه نفيًا في صمت بينما بقى الآخرون وكأنهم تماثيل من الشمع.. فأردف في حدة:
- هناك طلب قدمه أحدكم للانتقال لقسم آخر؟
ترددت إحدى الموظفات قائلة:
- أنا يا سيدي. 
- حسنًا.. ما الذي يزعجك هنا؟
- لا شيء.. ولكن.....
- ولكن ماذا؟  أنا لا أحب التهريج في العمل.. إن كانت المؤسسة لا ترضي طموحك يمكنك البحث عن مؤسسة أخرى.. وسوف نساعدك على الالتحاق بها ونمنحك شهادة خبرة تؤهلك للعمل أينما شئت.
ابتلعت المرأة اعتراضها وأحنت رأسها في خنوع واستسلام.. كيف يمكنها إخباره بأنها تكره هذا القسم لوجود عبد العظيم به.. هذا المستبد الذي يحصي عليهم حتى أنفاسهم بوجهه العابس الكئيب.. ممنوع الضحك.. ممنوع التبرج الزائد.. ممنوع الحديث في وقت العمل.. ممنوع الانصراف قبل انتهاء مواعيد العمل الرسمية بدقيقة واحدة حتى وإن كان الموت سببًا.. هل يعلم أنه كان يفكر جديًا في تصميم زي خاص بالقسم..؟ 
مجرد تفكيرها في لون هذا الزي وطريقة تصميمه تصيبها بالغثيان.. يكفي أن عبد العظيم هو من سيشرف على إعداده بنفسه.  
كيف تشرح له أن كآبته أصابتها وسببت لها مشكلات لا تحصى مع زوجها بعد أن انتقلت معها إلى منزلها.. ازدادت سخطًا عندما قال أدهم:
- عبد العظيم بك.. رئيس قسم لن يتكرر.. يكفي أنه يساعدكم على تحقيق الانضباط في العمل.. بسببه تنالون حوافزكم كاملة.. ماذا تريدون أكثر من هذا؟ 
حدق بعضهم في عبد العظيم بعدوانية لم تخف عليه.. كان يعلم أن عبد العظيم أكثر استبدادًا منه.. لا يرحم هفوة في لحظة ضعف ولا يتغاضى عن خطأ مهما بلغ صغره.. يُقدس الروتين تقديسًا.. ولكن أسلوبه المتعنت رغم قسوته كان يضمن له المزيد من الدقة والالتزام في قسم حرج كهذ.. قسم الحسابات من أهم أقسام الشركة لذا فهو في حاجة إلى أمثال عبد العظيم به.
عاد إلى مكتبه من جديد وانهمك في توقيع بعض الأوراق العاجلة التي تعرضها عليه تهاني عندما طرق الباب ودخلت إحدى أفراد السكرتارية قائلة:
- هناك آنسة تدعى إلهام صبري تريد مقابلتك يا سيدي.
قال دون أن يرفع عينيه عن الأوراق أمامه:
- من هي؟
- لستُ أدري. 
تطلع إليها ساخطًا فأردفت بسرعة:
- تقول أنها على موعد مع سيادتك.. ولكن اسمها ليس مدونًا في دفتر المواعيد. 
عاد ينظر لامباليًا في أوراقه وهو يغمغم:
- لابد أنها صحفية مبتدئة تجرب حظها معي.. حيلة قديمة ومكشوفة.
- ولكنها تتحدث بثقة.. ربما.........
رفع إليها وجهًا عاصفًا فأكملت في تلعثم:
- ربما تكون سيادتك قد واعدتها أو...........
أسرعت تهاني توبخها:
- هل جننت يا هند.. منذ متى وأدهم بك يواعد النساء؟!
عادت بعدها لتنظر إلى أدهم قائلة:
- عذرًا أدهم بك.. هند حديثة العمل هنا وهي لا تقصد الإساءة.
أسرعت الفتاة تهتف وهي تغادر المكتب بظهرها:
- نعم لا أقصد.. لا أقصد أبدًا.
غمغم وهو ينظر إلى تهاني بصبر نافد:
- كيف وضعت معتوهة كهذه في قسم السكرتارية الخاصة بي؟
ابتسمت تهاني في هدوء قائلة:
- ربما تبدو متهورة قليلًا.. ولكنها في براعة الحاسوب يا سيدي.
ما كاد يتجاهل الأمر ويتطلع إلى أوراقه من جديد حتى دلفت نفس السكرتيرة إلى مكتبه مرة أخرى قائلة:
- عذرًا يا سيدي.. ولكنها تقول.......
قاطعها غاضبًا:
- اذهبي وتخلصي منها قبل أن أتخلص منكما معًا. 
أكملت بصوت مرتجف وهي تنصرف:
- من طرف مازن بك في لندن و..........
ضاقت عيناه قليلًا.. إنها هي إذًا.. تلك العاصفة التي تحدث عنها صديقه.. كان قد نسى أمرها في ذروة مشاغله التي لا تنتهي.. معتوه مازن.. رغم حديثه المستفيض حد الملل عنها.. فهو لم يذكر له اسمها...!
- لماذا لم تخبريني بذلك منذ البداية؟
هتفت في خوف لا يخلو من تمرد:
  هي لم تخبرني.
 دعيها تدخل.