محاكمة الكرونة

الأربعاء 22 أبريل, 2020

دخل الإنسان في خصومة... مع الكرة التّاجيّة المذمومة ... وخاض صراعات محمومة... بدت نهايتها غير معلومة... فصارت الحرب بينهما سجالا... أدواتها المعقّمات و"الجافال"... وأسلحتها "الخلّ" و "الجال"... فتلاطما حتّى عييا... وتلاكما حتّى ونيا... ثمّ لاذ الإنسان بالقضاء كشكل من الأشكال... لحلّ هذا الإشكال... ورفع قضيّة استعجاليّة إلى المحكمة العتيّة... لتنصفه في هذه القضيّة... وتصدر في حقّ المذنبة أحكاما جزائيّة... و هدّد بتدويل القضيّة... أمّا القاضي فسعى لحلّ الخلاف بطرق ودّية وأنصت للمدّعين بكلّ رويّة المدّعي الأوّل : جئتك اليوم ياسيّدي أتظلّم آه لو تدري كم أتألّم... حالي اليوم لايسرّ... وذنب الكرة التّاجيّة لايغتفر...بئس كويرة شريدة نكّلت بكرة أرضيّة عتيدة ...إنّها تتسكّع في طرقاتها تسكّعا عجيبا و تنطّ في الشّوارع نطّا غريبا... تتعلّق بتلابيب النّاس... من مختلف الملل والأجناس... هي عابرة سريعة للقارات...قاطعة للبحار والمحيطات...طافت الهند والسّند والعالم الأصفر...ولم يسلم من دائها افريقيّ أسمر أو أوروبيّ أشقر... ضحاياها اليوم لا يُعدّون فالملايين موبوؤون... وبالفناء مهدّدون...والآلاف ضمّتهم القبور...وعشرات الآلاف يقفون في الطّابور.. تغلغل سمّ هذه الأفعى في الجسد ...حتّى كاد يأكل مني الكبد أو يروقك هذا يا من تحكم بجدّ المدّعي الثّاني : هذه السّيّئة السّمعة أساءت للجميع ...ونكّلت بهم بقدر ما تستطيع ...إنّها ترابط في طرقات عبورهم... فترافقهم دون أن تشورهم... ومن أبوابهم تدخل خدورهم ...لتقودهم إلى قبورهم... فهي إلى رئاهم تتسرّب... فتتلفها وتخرّب... أنا يا سيّدي اليوم مذهول... ومن فعلها أكاد أصير مخبولا... إنّها وضعتنا قيد الإقامة الجبريّة... وهتكت أعرافنا الاجتماعيّة... فهي لصلات رحمنا قاطعة ... و كالنّار لمن يقترب منّا لافحة ...طارق بابنا نردّه مدحورا... وزيارتنا لأحبّتنا فعل محظور... أمّا قاصمة الظّهر والمسبّبة للنّفوس القهر... إصابتنا بالوسواس القهريّ... فلبعضنا لا نكلّم... وبرفع الحاجبين نكتفي حين نسلّم...أيادينا لكثرة الغسيل بليت...وثيابنا تمزّقت واهترأت المدّعي الثّالث: إنّها لعينة فعلها معووج...فرضت علينا قانونا ممجوجا... إنّ الكافرة أوصدت اليوم دور العبادة وحرمت المسجد من قصّاده... المؤذّن صار يبكي في الصّومعة... الصّلوات في بيوتكم حتّى الجمعة...الحرم المكّيّ خلا من المتعبّدين... بعد أن كان يعجّ بهم في كلّ حين...زيارة البيت الحرام تعلّقت... و الطّرق المؤدّية إليه استغلقت...الكنائس أيضا ما سلمت فلأبوابها أوصدت ...إنّها أجرمت في حقّ ديننا وكلّ الأديان... فعاقبها ياسيّدي وانتصر لقصّاد المساجد ومعلّقي الصّلبان المدّعي الرّابع : هذه المشؤومة حرّمت سعي الإنسان... بل سلبته ما به يكون إنسانا...إنّها عدوّة العلوم والفنون...وكارهة الرّياضة والقانون...ترك المتعلّمون مدارسهم... وهجر الفنّانون مسارحهم ...دور السّينما سرّحت روّادها...وكبرى المهرجانات أغلقت أبوابها...نسج العنكبوت خيوطه في المتحف والمعرض...فالزّائر عنهما أعرض...لفظت الملاعب قصّادها ... و في وجوههم أغلقت أبوابها... أعتى البطولات الرّياضيّة تعلّقت...حتّى الألعاب الأولمبيّة تأجّلت...ذاك بعض فعلها الّذي يشي بظلمها عبر الزّمان فعاقبها وانتصر للإنسان وثقافة الإنسان المدّعي الخامس هذه العنيدة بطشت كسفّاح وضربها لنا كان ذبّاحا... أعتى رجال السّياسة ارتعشوا تحت ضرباتها... وصنّاع المال ترنّحوا من صفعاتها...بل إنّ أمن الدّول اهتزّ من لكماتها...لأجلها استفر الجنود من ثكناتهم... واعتكف العلماء في مختبراتهم... و هرع الأطبّاء إلى عياداتهم... إنّها خصم عنيد...مقارعتنا له لا تفيد ...فهي السّيّد ونحن في حضرتها العبيد...هي الظّالمة إذن يا سيّدي القاضي والله على ما أقول شهيد...فعاقبها حتّى عن الحقّ لا تحيد الرّاوي : بعد أن شكا الإنسان حاله طويلا...وفسّر وشرح وفصّل القول تفصيلا... قال القاضي القاضي : لتتقدّم الكويرة التّاجيّة المتّهمة الرّئيسيّة في هذه القضيّة ولتشرح للقضاة والمستشارين وجهتها في القضيّة فمن شروط القضاء العادل... الإنصات لكلّ خصم ومجادل... ثمّ نصدر حكمنا العادل المتّهمة : سيّدي أنا الكويرة التّاجيّة قالوا إنّي بدعة عصري وإنّي أهلكت النّاس في كلّ مصر...وكلامهم هذا كلام صحيح لا يحتمل القدح والتّجريح... لكن فاتهم أنّي صنيعة مخابرهم القذرة... و لصراحتي هذه أطلب المعذرة... القاضي : كلامك غامض مثير... فيه اتّهام للإنسان خطير...ففسّري و وبرهني وقدّمي التّبرير المتّهمة : كنت كائنا سويّا...أسبح في الفضاء بحرّيّة...أداعب أنوف النّاس فيعطسون...و في أقسى الحالات يسعلون...فأنا أصيبهم بنزلة خفيفة موسميّة... أو كحّة عابرة وقتيّة...يعالجونني بزيت الزّيتون... ويطاردونني بعصير اللّيمون...وفي ذات يوم مشؤوم...التقطني آثم بالعته موسوم... وبالنّوازع الشّرّيرة موصوم... فحشرني في أنبوب التّجارب...وعدّل جيناتي خدمة لبعض المآرب... وأطلقني في كلّ الطّرقات والمسارب...بعد أن ورّثني بعض صفاته... وزرع فيّ أنذل خلاّته... فصرت أخبط خبط عشواء... أفسد في الأرض وأتطاول لأبلغ عنان السّماء...إنسانكم الّذي جاء يشكو الخراب... هو أسّ اليباب...إنّه أساء لكلّ كائنات الأرض...وأفسد في الطّبيعة بالطّول والعرض...اسألوا الطّير في أوكاره...و استفهموا من السّبع في أوجاره...يخبّرك الجميع عن عتهه وسوء مساره...إذن مدّ يديك يا سيّدي وصافحني... وبمعاقبة الإنسان المذنب عاهدني الرّاوي : بعد هذه المصافحة الّتي تلت المساءلة...رفع القاضي الجلسة للمداولة ...ولكنّه ماعاد لينطق بأحكامه...ويجزي الجاني لسوء أفعاله...فبعد مصافحته للـــ"كوفيد"...التقط عدوى الفيروس العنيد...ونُقل للمستشفى البعيد...معاونوه صاروا قيد الحجر الصّحّيّ الذّاتيّ... المحكمة الموبوءة أغلقت إغلاقا اضطراريّا...والقضيّة علّقت تعليقا قسريّا...وتُرك الإنسان لمصيره...أو لعقله وحسن تدبيره...