قضية تقنين "السناتر".. والحقائق المرة !!
الاثنين 24-10-2022
08:18 م
المنظومة التعليمية في بلادنا ليست مجرد وزارة أو قرارات وزارية أومجموعة من المدارس أوقاعات لتلقي الدروس أو مجموعة من الطلاب ،وإنما هي منظومة متكاملة الأوجه والأبعاد، بها المعلم والمنهج ،الوسائل التعليمية، التقنيات الحديثة، الأنشطة الطلابية،ونظم التدريس والبيئة المدرسية ، ولا يختلف أثنان أنه أحسن القائمون علي العملية التعليمية التخطيط الاستراتيجي الفعال،واستثمار المدخلات الجيدة،فسيأتي الحصاد مثمرا وزاخرا ومزدهرا.
وأتصور أيضا أن البيئة المجتمعية أو النسق الاجتماعي العام،والثقافة التعليمية المتوارثة مكون أساسي ومهم من مكونات النظام التعليمي ،وهي بيت القصيد في هذه السطور،والتي ألقت بظلالها السلبية علي قضية الدروس الخصوصية، فأمست إشكالية معقدة متشابكة ،استعصت علي عدد من وزارات التعليم من قبل ،رغم أن الطرف الأصيل فيها والمتسبب الأساسي هم أولوياء الأمور أنفسهم، مع إصرارهم علي عدم التخلي عن ثقافة الدروس الخصوصية لتجاوز المراحل التعليمية، والحصول علي الشهادات بأي ثمن ،علاوة علي تراجع مستوي التعليم العام في العديد من المدراس .
ورغم الجهود التي بذلتها الدولة في الآونة الأخيرة للارتقاء بالمنظومة التعليمية،وإيجاد حلول عملية للمشكلات التعليمية المزمنة والمستجدة فإن حال التعليم في بلاد المحروسة،ما يزال يسير خطوتين للأمام وخطوة للخلف ، وأحيانا خطوة للأمام وأخري للخلف ،فالحمل ثقيل جدا ،متخما بتحديات وموروثات ومعوقات جمة ينأي عن التصدي له الشم الرواسي !.
كما أن الزيادة السنوية المطردة في أعداد طلاب المرحلة ما قبل الثانوية والتي اقتربت من 26 مليون طالب، وأربكت جميع الحسابات والتقديرات ،وتحتم علينا التريث والتكاتف ،فالمسؤولية جماعية ومشتركة لسبر أغوار هذه التحديات المتزايدة.
وقد أثار قرار وزير التربية الدكتور رضا حجازي بإيجاد آلية لتقنين مراكز الدروس الخصوصية ردود أفعال واسعة وجدلا كبيرا في الشارع المصري،وتوجسا مشروعا من تلاشي دور المدرسة تدريجيا،وربما إلي حد الإندسار !.
وقد فجع البعض القرار ،واعتبره أمرا صادما ،وأن الوزارة أعدمت الوسيلة،ويأست من إيجاد حلول مبدعة وبدائل للعنة ظاهرة الدروس الخصوصية التي طفت علي السطح في السنوات الأخيرة، واستفحلت، وأصبحت مرضا فتاكا يهدد المنظومة التعليمية بأسرها، ويحبط تطلعات واستراتيجيات تطوير التعليم التي أعلنتها الدولة ،والتي تعتمد علي تنمية روح الابتكار والإبداع والتفكير الناقد!
وفي تقديري أن هناك عددا من الحقائق المهمة ربما يسهم إدراكها والوعي بأبعادها في إيجاد الحلول الناجزة ،وربما الناجعة
،لا ينكرها إلا كل مغرض.
أولها أن قرار الوزير جانبه الصواب ،وكان من الأنفع دراسة الموضوع من كافة أبعاده، وإجراء حوار مجتمعي شامل،ولو تطلب الأمر عقد مؤتمر متخصص لدراسة ومناقشة ظاهرة الدورس الخصوصية، وإيجاد مخرج لتغيير هذه الثقافة المجتمعية المتوراثة،وتغيير الصورة الذهنية عن التعليم الحكومي ،مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعودة الطلاب للمدراس.
ومن الحقائق أيضا أن الدولة تسعي لتطوير التعليم الحكومي وتحسين بيئته لا لتقويضه والتخلص منه، بدليل نجاح المدراس اليابانية والتجريبية والقومية، أما التعليم الخاص،فله ضرورة مجتمعية لاستيفاء حاجة فئات مجتمعية قادرة علي تحمل نفقاته،أما التعليم الموازي سواء أكان دروسا خصوصية بالمنازل أو بالسناتر فيهتم بالنتيجة ولا يكترث بالجوهر،ويعتمد
أصحاب المجموعات الخاصة، "السانتر" علي فكرة حشو الأذهان والتلقين والحفظ،و لا هم لهم إلاجمع المزيد من الأموال ،وجذب الكثير من الزبائن!.
ومن الحقائق أيضا الفشل الذريع للمجموعات التعليمية بالمدراس خلال السنوات الأخيرة لأسباب عديدة وعدم قناعة الطلاب وأولياء الأمور بجدواها!.
وأتصور أن الجمع بين النقيضين ، والاعتماد علي المدرسة والمجموعات ستخرج لنا أجيالا مشوشة تعاني من التشتيت وعدم التركيز ،ولا مجال الإبداع حين يتحول التعلم لرحلة عذاب يومية ، وفقا لرؤي الخبراء التي تؤكد أن القدرة الاستيعابية لا تتسع لكل هذه المهاترات
والضغوط النفسية!.
وتبقي الحقيقة المرة التي يحاول البعض أن يتملص منها ويلقي بالاتهامات علي المدرسة،فوفقا لكافة المراصد واللقاءات الإعلامية مع أولوياء الأمور فإن الغالبية العظمى تفضل الدروس الخصوصية و"السانتر"،باعتباره الدواء المر وأقصر الطرق لتحقيق الأهداف،رغم ما يتجرعون ،ويقاسون من متاعب وهموم التكلفة الباهظة لهذه الدروس ولمجموعات "السانتر" التعليمية ، أو ما يعرف بالتعليم الموازي أو التعليم البديل.
وأتصور أن من الحكمة ،وقبل أن نوجه سهام النقد الشرس للوزير ، فإن من الأجدي تقديم مقترحات مجتمعية من خلال حوار موسع ،يشارك فيه خبراء التعليم، والباحثين المختصين
قبل خبراء الماليات ،والاقتصاد بهدف إيجاد آلية لإنقاذ العملية التعليمية،وتغيير هذه الثقافة ، التي لا تأبه بالمردود العام ،فكل ينظر للعملية التعليمية من منظوره الخاص ،إما للمنافسة والحصول علي أكبر مجموع مؤهل لكليات القمة ،أو تحسين مستوى الطالب.
واعتقد أنه من الحكمة والمنطق تفهم مشكلة الدروس الخصوصية من كافة أبعادها ،وأسبابها والاهتمام بتدريب المعلم وإعداده والارتقاء بمستواه ماديا ومعنويا، باعتباره أهم عناصر المنظومة التعليمية ، وبالإمكان رفع المصروفات الدراسية بقدر معقول لتوفير عوائد تصب في مصلحة التعليم الحكومي، مع تخصيص منح مجانية لغير القادرين.
ومن الغير المعقول الاعتماد علي المعلمين المتطوعين في الأسس والفرائض،ففاقد الشيء لا يعطيه،وخاصة مع الظروف المعيشية والاقتصادية المعقدة في هذه الأيام.
وأيضا إيقاظ الوعي المجتمعي بضرورة تخلي الأسر المصرية عن قناعتها الأساسية بأهمية هذه الدروس ، فما صنعته السنون والأيام من المستحيل تغييره في شهور ،لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
إن معين الأفكار المبدعة لا ينضب أبدا، وتبقي الإرادة الجماعية الصادقة لتحقيق الأهداف وتجاوز كافة العقبات في هذه القضية المجتمعي الشائكة !